أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فواز فرحان - أحباب في العالم الآخر ...3















المزيد.....



أحباب في العالم الآخر ...3


فواز فرحان

الحوار المتمدن-العدد: 2562 - 2009 / 2 / 19 - 08:18
المحور: الادب والفن
    


أحباب في العالم الآخر
لم يكن يعلم على وجه التحديد طبيعة المشاعر التي إنتابتهُ فجأةً تجاهها ، فقد كانت تلك النظرات القادمة اليهِ من الوجه المتسم بعلامات من البراءة والجد تحمل اليهِ تياراً جارفاً من المشاعر التي لم يعشها من قبل ، لا بل غيّرت كيانهُ وأصبح يشعر بأن هناك شيئاً ما يتملكهُ لم يسبق لهُ الشعور بهِ ...
أخذت الافكار والهموم تتقاذفهُ محاولاً البحث عن السّر الذي شدّهُ إليها رغم ان وجهها لم يكن يحمل في قسماتهِ جمالاً فائقاً ولكن ....نظراتها!! نعم نظراتها وبريق عيونها وبرائتها وأشياء كثيرة أخرى لم يكن قادراً عن التعبير عنها او حتى تفسيرها ..
لقد شدّتّهُ اليها بقوة وأصبح عاجزاً عن مقاومة هذا الشعور ، وفوق ذلك أدرك أنها سكنت أعماقهُ وإحتلّت مساحة من قلبهِ حتى انهُ أصبح ممتنّاً لتلك المناسبة ألدينية التي جمعتهُ بها في ذلك المزار البعيد الذي يذهبون إليهِ للتذرّع الى الله وطلب المطر عند حدوث حالة إنعدامهِ ...
لم يكن يعلم عنها شيئاً فراح يبحث عنها بين تلك الجموع ، كانت العوائل تتخذ من السهول الخضراء المحيطة بالمزار مكاناً للإستراحة وتفترش الأغطية للجلوس عليها وتناول وجبات الطعام التي عادةً ما تأخذها معها في مثل هذهِ السفرات وراح يتنقل بين تلك العوائل ويبحث عنها دون جدوى حتى انّهُ نسي أهلهِ وصديقهِ ألذي يرافقهُ دون ان يعلم السبب الذي حدى بهِ للشرود بهذا ألشكل ...
وجدها أخيراً وأدركَ على الفور انها تنتمي لعائلة لا تقرب لهُ بشئ ، تعرّفَ على أشقائها من النظر اليهم فهُم أبناء بلدتهِ وكثيراً ما إلتقى بهم بشكل عابر في مقهى البلدة وتبادل معهم أطراف الحديث ، قرّرَ أن يتخذ من حجارة بارزة فيها بعض النتوءات الصغيرة على أحد أطراف الشارع الترابي الصغير والقريب من مكان جلوس عائلتها مكاناً لهُ للجلوس ومبادلتها النظرات لكنّ صديقهُ نبّههُ إلى أن ذلك قد يسبب لهما المتاعب فهو يشكل تعديّاً على حرية الآخرين لا سيما وقت تناول الطعام استجاب لطلبِ صديقهِ وعاد ادراجهُ إلى المكان الذي إتخذتهُ عائلتهُ لتناول الطعام هناك ، وراح يفكر بها ليل نهار منذ عودتهِ من المزار ويبحث عن طريقة تمكّنهُ من رؤيتها ثانيةً وكل يوم فقد أصبحَ هائماً بها لا تعرف عيناه النوم حتى ساعات الفجر الاولى من كلَّ صباح ...
2
كان يذهبُ مُتعباً الى الحقل الذي يعمل بهِ لمساعدة اسرتهِ وادرك أنَّ تلك الصورة الجميلة لا يمكن أن تغادر خيالهُ بعد اليوم بسهولة وأضحت جزءاً من كيانهِ وإن المستقبل لا يمكن تصورهُ من دونها ...
بدأت اسرتهُ تشعر بالتغييرات التي حلّت عليهِ ، فهوَ لم يعدْ كالسابق يفكر بالطعام ، بالعمل ، بالنوم بل يحب الجلوس لمفردهِ بالتفرّغ مع ذاتهِ تائهاً هائماً قاضياً كل أوقاتهِ بالتفكير بها.
ليس بوسعِ أحد إختراق دواخلهِ ليَعلم أسراره ، حتّى صديقهُ أقرب المقرّبين إليهِ لا يعلمُ شيئاً عما يحدث لهُ ، تغيّرَ كثيراً وراح يُبدي إهتمامهُ اكثر من السابق بمظهرهِ ، كل ما كان يشغلهُ هوَ رؤيتها ثانيةً والتأكُّد من أنَّ تلك ألنظرات لم تكن عابرة وتحملُ في طيّاتها شئُ من الذي يشغِلَهُ ليلَ نهار ...
وشرعَ ذاتَ يوم بتحقيق حلمهِ البسيط والمرور من أمام دارها معَ المغيب حيثُ تتجمّع النساء عندَ عتبات الدور ليتبادلّنَ الاحاديث ، وكانت تلك اولى خطواتهِ للتأكد من مشاعرها ، كانت بالفعل تجلس مع والدتها وإثنين من نساء الجيران على ما يبدو ...
ظهرَ مضطرباً للغاية محاولاً اخفاء خجلهِ الذي إعتراه فور مشاهدتها قسمات ذلك الوجه الذي كانت تفضحهُ على الفور والهيام يشّعُ منهُ ، كان في قرارة نفسهِ يتمنى ان يكون وحيداً معها في ذلك الزقاق يتوق لمبادلتها تلك النظرات التي أسرتهُ وأدرك معها انها تشدّهُ الى عالمها غير قادرٍ على مقاومتها يحاول الحفاظ على توازنهُ وكبرياءهُ دون جدوى ...
حتى والدتها شعرت أنّ هناك مشاعراً ما تدور بين ابنتها وذلك الشاب الذي مرَّللتو من أمام منزلهم ، شدّها اليهِ هو ألآخر وأدركت أن هذهِ ألمشاعر لا يمكن أن تكون سوى العشق، لقد سكن قلبها منذ الحظة الاولى وراحت تنظر للحياة بشكلاً آخراً حتى لليل والنهار غدت تنظر إليهما نظرة أخرى ! كانت ترى في ذهابها إلى المراعي عملاً يثقل كاهلها أمّا الآن فإنها ترى فيها متعة خاصة وهي تحلب تلك الاغنام وتتلذذ في سماع أصوات تلك الاجراس الصغيرة المتدلّية من رقابِ صغارهم ، لقد أحبّت فجأةاً كل شئ من حولها وراحت تنظر الى الحياة ... الى الطبيعة .. نظرة أُخرى أكثر عُمقاً ...
3
اصوات الاطفال في الدار كانت تبعثُ فيها نوعاً من الغضب والانزعاج تغيّرت تجاهها حتى أنها راحت تتأمّل تلك النبرات البريئة المنبعثة من اصواتهم وتتلذذ في الاقتراب من معانيها ، لم تعُد تسئمَ اصوات العجائز في الدار كما كانت تفعلَ تجاه جدّها وجدّتها ، لم تعد تسئمَ صوت والدتها التي كانت تستيقظ باكراً لاعداد الخبز الحار لأفراد الاسرة مع حماتها التي كانت تبدي تذمُّرها وتعيب ذلك الخبز دون مبرر فكان ذلكَ يُشعِل كل صباح بينهُن مشادّات متكررة ، اما هي فلم تعد تنزعج من تلك المُشادّات بل تسحب الغطاء حتى رأسها لتتجنّب نسمات البرد الصيفية مطلعَ الفجر وترتسم على محياها إبتسامة تعبّر عن عشقِها لهذهِ التفاصيل اليومية ..
أصبحت تنتظر المغيب كلَّ يوم بفارغ الصبر لانّهُ يجمعها بحبيبها حتى وإن إقتصرَ ذلك على مبادلتهِ النظرات والعشق المتبادَل بينهما ولا تبالي بالقلق الذي يسيطر عليها من مرورهِ من أمام الدار ..
اكتشفت فجأةاً أنها لا تعرف إسمهُ !! لقد بدا الامر لها مُضحكاً وبعد مرور اسابيع على هذا الحب تمكنت من معرفتهِ من خلال سؤالها لجارتها عنهُ وعلمت ان اسمهُ جابر وهو ينتمي لعائلة فلاحية من البلدة تعرِفهم عن بُعد ..
لقد تأكدت أنها لم تعد تتحمّل مرور يوم دون رؤيتهِ حتى وان كان ذلك من بعيد ، كانت في قرارة نفسها لا ترغب بالبوح لأحد بمشاعرها أو ما يجول في خاطرها لأيٍّ كان لأنها تعلم أن ذلك يولّد لها المتاعب مع والدها وأشقائها ..أما جابر فقد بدأ بتغيير حياتهِ تماماً وأصبحَ يستيقظ منذ الصباح الباكر نشطاً تدفعهُ عزيمةً قويّة لإنهاء واجباتهِ على أكمل وجه خاصةً في الحقل الذي تمتلكهُ الاسرة وتعتاشُ عليهِ ...
ما كان يدفعهُ لإنهاء واجباتهِ بسرعة والتوّق للعودة الى الدار هو الرغبة برؤيتها والاستمتاع بتلك النظرات التي أصبحت تشكّل عالمهُ الخاص ، لقد تغيّرت حياتهُ حتى أنها أصبحت أكثر تنظيماً وإندِفاعاً من السابق ، قرر الحديث عن مشاعرهِ تجاهها لصديقهِ الذي كان شاهداً لأول نظرة دون أن يعلم !! كان صديقهُ هذا يشاركهُ في الكثير من الهموم والمتاعب ويدعى سالم ...طلب جابر منهُ مصاحبتهِ في الذهاب لرؤية حبيبتهِ لكنهُ إقترح عليهِ البحث عن طريقة تمكنهُ من لقائها والبوح بمشاعرهِ لها كي يطمئنَّ أكثر ..
4
لقد شعرَ للمرةِ الاولى في حياتهِ أنَّ لوجودهِ معنى ... وأنّ الحياة لا يمكن إختصارها بالعمل في الحقل وقضاء ساعات طويلة في النوم ، لقد أعطتْ بحبها لهُ معنىً أوسع
لحياتهِ وحرّكت كلَّ مشاعرِهِ دفعة واحدة ، يومين متتالين مرّا دون أن يمكن من رؤيتها أو الظفر بنظراتها ، كان لا يعلمُ شيئاً عن إختفائها أو عدم جلوسها أمام عتبة الدار كعادتها كل يوم مع أقتراب المغيب وغدا حائراً لا سيما بوجود صديقهِ معهُ ، أصبحَ عاجزاً عن تفسير غيابها وإنتابهُ القلق لأول مرة وراح يستعيد شريط الاحداث في خيالهِ علَّهُ إرتكبَ خطأً ما دون علمهِ تسبب في إبتعادها ، وفي اليوم التالي قرّرَ إعادة المحاولة وشائت الصدفة أن يجدها بصحبة مجموعة من النسوة ذاهبن على مايبدو لبيادر البلدة أدرك ذلك من خلال مشاهدتهِ لهُنّ وهُنّ يحملنَ إناءاً (سطلاً) يستخدم لجمع الحليب من الاغنام التي تتجمع في البيادر مع حلول العصر كل يوم ...
لم ينتبهَ لذلك من قبل لقد فاتهُ التفكير بهذا السبب وتسلّلت الى مشاعرِهِ فجأةاً راحةً قلّما شعرَ بها من قبل !!
كان ذهاب النسوة إلى البيادر عادةً سائدةً لحلب الاغنام هناك وأغدقتهُ بنظرة معبّرة أوحت لهُ بعمق إشتياقها وحبِّها لهُ ، بعدها عاد الى الدار ظافراً ويشعرُ بنشوة فريدة ليزداد يقينهُ أنها تبادلهُ كلَّ شئ ..
كان شوق الربيع وذلك الهواء العليل الذي يستنشِقهُ يدفعهُ بإتجاه الافصاح عن مشاعرهِ في اسرعِ وقت خوفاً من ان يعترض هذا الحب ايّ طارئ يعكِّرَ صفوَهُ ، استجمعَ قواهُ العاطفية ذات يوم عاقداً العزم على مصارحتها والبوحِ لها بمشاعرهِ دون الالتفات للهواجس التي عملت دائماً على منعِهِ من القيام بذلك ..
إتّجهَ ذات يوم نحو دارِها وراحَ يترقّب خروجها المعتاد في ذلك الوقت الى بيادر البلدة كانت جاراتها تتهيئنَ للذهاب معها ، خرجت مرتديةً شالاً أحمراً فضفاضاً جميلاً أضفى عليها مزيداً من الجمال والاعتداد بالنفس لم يألفهُ فيها من قبل ، كان يحاول تركيز كلَّ أفكارهِ على إنتقاء الكلمات التي تجنبَهُ الحرج وتجعلهُ مُحتفظاً بكبرياءهِ لقد أصبحت صورتها بالنسبةِ لهُ تجسّد العالم الذي يعيشهُ بأوسعِ معانيهِ .

5
كانت تسير مع بنات محلّتها وأصوات أحاديثهن تعلو والاقتراب منها يشكّلُ في هذهِ الحالة ضرباً من الجنون وفضيحةً لهُ ولها ايضاً وهوَ لا يريدُ ذلك حتماً ، شعرَ للمرة الاولى بأنّهُ يقوم بعمل صبياني بملاحقة حبيبتهِ بهذهِ الطريقة ، كانت هي الاخرى تلتفت اليهِ بين الحين والآخر لِتبدي إهتماماً بهِ وتجعلهُ أسيراً مُقيّداً في عالمها ، لم تشعر ايّاً من النساء من حولها بما كان يدور بينهما من بعيد لانها كانت تحاول إخفاء ذلك قدر الامكان ...
وبعد وصولهن ذهبت كلّ واحدة منهن إلى مكان وقوف اغنامها بينما استغلت هي هذا الانشغال لزميلاتها بالاقتراب منهُ واضطربت ملامحهُ من جرئتها تلك قبل أن يتمكن من السيطرة على نفسهِ ويتجرّأ للحديث معها ...
ــ مرحباً كيف حالُك ؟؟
ــ بخير وأنتِ ؟؟
ــ شاهدتكَ تتبعني بطريقة جنونية أليسَ كذلك ؟؟
ــ بالمناسبة ما إسمُكِ ؟؟
ابتسمت ابتسامة معبّرة وأجابتهُ ..
ــ إسمي غزالة .. وأنت إسمك جابر .. سألتُ عنك !!
ــ يعني تعرفينني .. وتعرفي أيضاً ...
ــ أعرف ماذا ؟؟
ــ بصراحة ..لا أعرف كيف أبدأ !! أنا ...
ــ أنت ماذا ؟؟
ــ يعني أنتِ لا تشعري بي ..؟؟
ــ بلى أشعر منذ اللحظة الاولى لكني كنتُ أنتظرك ..
ــ يعني هذا أنكِ تعرفي ؟؟
6
ــ نعم..
ــ أنا أُحبكِ يا غزالة .. نعم احبك !!
ــ اعلم كنت أنتظرها منك.. وأنا احبك منذ تلك اللحظة !!
ــ تأكدي أنني اليوم ولدّتُ من جديد انا اسعد مخلوق في الوجود ..
اضطربت وامتلئ وجهها بالاحمرار شعرت ان قواها قد خارت تماماً بهذا الحديث وتجمّعت جملة من العواطف المتشابكة دفعة واحدة حتى أصابعها التي تتجمّع حول أثدية الاغنام ترتجف تارةً من الفرحة واخرى من الخوف ! هناكَ قوةً ما تسري في جسدها لا تعرف مصدرها بالتحديد لكنها أحسّت بتيّار من السعادة ينتابها ويبدو ان مصارحتهِ لها كانت ينبوع تلك السعادة ...
اما هو بعد أن برِحَ ذلك المكان ، كان غير مُصدّقاً ما شاهدتهُ عيناه وسمعتهُ أذناه من كلام معسول عبّرَ عن عاطفة متبادلة بينهما ، لم يتمكن من التعبير عن كل ما يجول في خاطرهِ فهو ادرك أنَّ الوقت لم يعطهِ المجال وفوق ذلك حالة الاضطراب التي انتابتهُ وجعلتهُ فاقداً للسيطرة على عاطفتهِ وكلامهِ ، كان يتطلّع في تلك اللحظات نحو السماء والشمس تميل للمغيب لتفسح المجال امام الغسق القادم بكلِّ اجلال واحترام ليشكّل لوحةً لم يكن يستوعب تفاصيلها الا العشّاق في تلك اللحظة ...
وفي نفس الوقت شعرت هي الاخرى كأنّها حصلت على هديّة من السماء لم تكن تستطيع ان تثمّن تلك اللحظات فهي مَدّتها بطاقة تكفيها الزمن بأسرهِ للعيش في الإلهام وعالم الغرام ، كانت تنهّداتها بين الفيّنة والاخرى تُخرجُ من صدرها كبت العواطف المتفجّرة ، كبت العالم القاسي ألذي جعلها أشبه ما تكون بقطعة من أثاث المنزل لا أحد يولي إهتماماً لها ...
تلك الابتسامة الظافرة على محياه كانت تمدّها بالاندفاع وحبّ الحياة والثقة بالمستقبل ، علاقة من هذا النوع في ذلك المحيط الذي يسيّطر على البلدة كانت بلا أدنى شك تعتليها المصاعب ، وراحت غزالة تروي حبّها لجاراتها في المحلّة وتدّثهن عن ذلك الشاب الذي الهم أفكارها وخطف مشاعرها وجعلها تعيشُ عالماً آخراً مُختلفاً تجاوزت من خلالهِ ذلك الظلام الذي كان يحيطُ بها ، فهي لم تعد تأبه كثيراً بأن يتسرّب الخبر لأهلها ربما دفعتها ثقتها بنفسها بإتجاه تخطّي الحواجز
7
دون مبالاة بالعواقب ،
كانت في قرارة نفسها تهدف الى أن يكون الموضوع معروفاً لهُن حتى يتسنّى لها لقاءهُ في بيادر البلدة دون أن يسببنَ لها المتاعب ...
كان تفكيراً ممزوجاً بالشعور المغامر أكثر من أيَّ شئ آخر ، لكنها عبّرَتْ عنهُ دون خوف وأدركت أنها تسير بطريق وعر بعض الشئ لكنّهُ لذيذ ، لم تعُد تبالِ بشئ فالحب في إطارهِ العام يعمي المرء عن رؤية المخاطر ...
احاديث الفتيات عادةً ما تحركها العواطف وتكون موضوعها الرئيس في مجتمع قروي صغير ليس عندنا فحسب بل عند أغلبِ دول العالم ، وعندما عادت للتفكير مع نفسِها بالبوح ِ لجاراتها بعاطِفتها تأكدت أنَّ هناك سبباً آخراً دفعها للحديث حتى دون أن تنتبه لهُ وهو موضوع الغيرة والخوف على حبيبها من خيال صديقاتها الذي قد يذهبُ بعيداً وتتصوّرَ إحداهُن بِأنَّ جابر يمرُّ من المحلّة لأجلِها !!
تفكيرها البسيط والعفوي ربما أوحى لها بهذا التخوّف حتى وإن لم يكُنْ في محلِّهِ ، وأصبحت بالفعل تمتلك الجرأة للقاء حبيبها كلَّ يوم وتبادلهُ عبارات العشق وتُعبِّرَ لهُ عن مشاعرها بصدق لم تكن تتخوّفَ من ان يراها أحد بعد ان تيقّنت من انَّ حبيبها يمتلك نفس المشاعر وانّهُ لم يعُد يتمكّن من قضاءِ يمومَهُ دون رؤيتِها ...
عند المغيب كلَّ يوم كانت تعيشُ لحظات من الحب تُعطيها الاملَ في حياةٍ أفضل تكونُ فيها سعادتها مكتمِلة ولا تهاب ما يعترِضُها ، كان في بعض الاحيان عندما يلتقيها ينشدُ لها الشعر ويُغنّي لها مقاطعَ بسيطة من أغاني شعبية متداولة في البلدة واستمرّت علاقتهما تنضج يوماً بعد آخر وتأخذُ مجرى العشق الابدي ... كانت تلك العلاقة تشقُّ طريقها في عالم مُظلمٍ كاشعاعٍ من نور يخترقَهُ دون ان يباليَ بعُمق ذلكَ الظلام ...
اصبحَ يهيّء نفسهُ لذلك اليوم ألذي يُعلن فيهِ ارتباطهُ بها على الاقل امام مسامع اهلهِ ، كانت الاحداث التي تحيط بواقعهِ تمنع ذلك حيثُ تعرّضت عشيرتهِ لأكثر من مرة لمصائب واحزان حالت دون تحقيق تلك الامنية التي تجول في خاطرهِ ....
كانت هي من طرفها تحاول اعطاءهُ الامل بإستمرار وتهدئتهِ كي لا يشعر

8

بالإحباط فالبيدر الذي يلتقي فيهِ بحبيبتهِ أصبحَ يُشكّل عالماً مُتكاملاً لا يمكنهُ نسيانهُ أو تجاهُلَهُ بل أصبح متعلّقاً بهِ يعشقُ كُلَّ ذرة ترابٍ وقطعة حجارة فيه لأنّها تحملُ في طيّاتها تفاصيل تلك العلاقة ألتي قطعت شوطاً طويلاً من الزمن وأدخلتهُ في قالبٍ آخرٍ غدا من الصعب عليهِ ألخروج منهُ ...
كانَ الابن البِكْرَ لأبيهِ ولهُ ثلاثة أشقاء أصغرَ منهُ وأربعُ شقيقات ، كان والديّه يتوقان لرؤية ذلك اليوم الذي يزفّونَهُ فيهِ ويعيشوا سعادة لم تكن قد دخلت ذلك الدار بعد ، في امسية أحد الايام أفرجَ عن أسرار قلبهِ لوالدتهِ وشقيقاتهِ وشعرت والدتهُ بفرحة غامرة تنتابها وهي تصغي اليهِ وتشعر بأنهُ أصبحَ ناضجاً وقادراً على تحمّل المسؤولية ، كانَ ينتظر منها أن تفاتح والدهُ وترى رأيهُ في ذلك بعد امتداح والدتهُ وشقيقاتهِ للفتاة ، لم يكُن قلقاً من ناحية والدهِ بقدر القلق ألذي إنتابهُ من ناحية اسرتِها ،فهو لا يعلم الكثير عن طبيعة تصرّفاتهم وتعاملهم مع قضايا الحياة المُختلِفة ، فاللقاءات التي جمعتهُ بهم في مقهى البلدة لم تحمل لهُ التصوّر الكامل عن شخصياتهم ...
لم يعترض والدهٌ على خيارهِ لشريكة حياتهِ رغم إدراكهِ إلى أنَّ هناك مصاعبَ كثيرة بإنتظار إبنهُ في الظفرِ بها ، فهوَ يعرِفُ جيّداً والدها فهو رجل متعصِّب تعبّئ الأفكار العشائرية رأسهِ بقوة ويبالغ كثيراً في تطبيق تعاليم الدين والاعراف الاجتماعية بالاضافة إلى أنّهُ رجلٌ منطوي على ذاتهِ لا يرغب بمعاشرة حتى أقربائهِ فكيفَ بالغريب !!
كان لقائُهُ بها يعطيهِ الامل والاندفاع في الحياة ويعطيهِ الشعور بالامان ، فهو لا يبالي كثيراً بالمحيط لأن حبيبتهِ وحدها كانت تمثّل عالمهُ الخاص أراد إبلاغها بما حصل من تطوّرات مع أهلهِ ويزّف لها خبر مجئ أسرتهِ لزيارة أهلها والحديث بموضوع الخطوبة معهم كانت بالنسبةِ لهُ كلَّ شئ ففيها اكتشفَ عواطفهُ التي تحرّكت مع أول نظرةٍ لها كان بإنتظارها في بيدر البلدة كالعادة ليسرق لحظات من الزمن للحديث معها فشعورهِ بالاضطراب بدأ يتلاشى مع الوقت ويشعر بثقة اكبر كلما اقترب منها لا سيما بعد أن جعلتهُ يشعر بالامان لحُبِها ...

9
كانت هي الاخرى واثقة من حُبّهِ لها وتتوقع في كل لحظة أن يرسلَ أهلهٌ لخطوبتها ربما كانت طبيعة الحياة الاجتماعية في البلدة هي الوحيدة التي كانت تُعكّر شعورها بالامان والراحة ولذّتها بتلك اللحظات التي تجمعها بهِ ، ذهبت كعادتها لمراعي الاغنام مع بنات محلّتها وهي تشعُّ تألقاً وتبدو راضية عن نفسها كان بانتظارها على أحرّ من الجمر وتسلّلت من بين النساء مُتّجهة نحوهُ وهي تراقب حولها جيداً خوفاً من أن يراها أحداً من غير صديقاتها ...
ــ مرحباً جابر ..
ــ مرحباً .. أنا بأنتظارك منذ ساعة ..
ــ تبدو سعيداً وجهُكَ يفضحُكَ .. ماذا هناك أسعدني معك ..
ــ هو بالفعل خبر سعيد لنا نحن الاثنين .. ستأتي والدتي لِتُفاتح أهلكِ بموضوع الخطوبة لقد إنتهى كل شئ تقريباً ..
ــ صحيح ؟؟ يالهُ من خبر سعيد حقاً ..ومتى ستأتي ؟
ــ لا أعرف .. اليوم أو غداً ..المهم أنهم وافقوا على كل شئ وقالوا أنهم مستعدّون حتى لحفلة الزواج ، لم يعد هناك عائق أمامُنا سوى موافقة أهلكِ ماذا تتوقّعين منهم هل سيكون لديهم مانع في إرتباطنا ؟
ــ لا أبداً ..لا أتوقع أن يمانعوا ربما هناك خطوة مقلِقة بعض الشئ وهي إستشارة عمامي في الموضوع ..
ــ وما ألذي يدعو للقلق في ذلك ؟؟
ــ في هكذا حالات يذهب والدي الى عمامي ويعرض عليهم الموضوع وانتَ تعلم العرف العشائري قد يقول لهم إن كان أحداً منكم يرغب بزواجها من أحد أبناءهِ فليتقدّم لها فهو أفضل من ألغريب ...
ــ يا ساتر .. انها فعلاً مشكلة لو طمعَ أحدهم بكِ !! هذا ما لم أفكر بهِ
ــ لذلك أطلب منكَ الصبر ولا تستعجل الامور ويجب أن تضع كل شئ في الحسبان
10
ــ صحيح .. ولكن يجب أن تفكّري جيداً هل تتوقعي ان يقف أحدهم في طريقنا ؟
ــ لا ..أتمنى أن يسير كل شئ على ما يرام ، سأذهب الآن وربما سيكون لقائنا القادم علنيّاً
ــ أتمنى ذلك من القلب .. الى اللقاء
ــ الى اللقاء
ذهبت والدتهِ إلى دار أسرةِ حبيبتهِ كما كانت تقتضي العادة قبل ذهاب مجموعة من رجال العشيرة للخطوبة كي تجِّس نبضَهم وتأخذ منهم الكلمة حول قبولهم إستقبال الرجال من عدَمِهِ ، إستقبلوها بشكل طبيعي وقدّموا لها قدحاً من الشاي وطلبوا منها إنتظار الجواب خلال يومين لغرض مشاورة عمامها ، تفاجئت الاسرة بالموضوع ولم تكن مستعدة لسماع خبر كهذا رغم إدراكهم بأن إبنتهم غدت ناضجة ومؤهلة لأن تكون متزوجة وربّة بيت ، لم يكن أمام والدها وجدّها سوى الحديث إلى عمومتها لأخذ رأيهُم في موضوعها لم يكن أمام الجميع مانع سوى أحد ابناء عمومتها كان يُدعى ماهر أراد الارتباط بها لكن والد غزالة رفض بحجة سوء سلوكهِ وتصرّفاتهِ بشكل عام وعند العودة إلى الدار كان الموضوع قد حُسِمَ بالنسبةِ لهم ، غير أنّ والدتها دخلت إلى دار جارهِم وهناك راحت جميلة وهي صديقة لغزالة تحكي لوالدتها عن لقاءات الغرام التي كانت بيادر البلدة تحتضنها بين كُل من إبنتها وجابر الذي تقدّمَ لخطوبتها ، كانت تسرد تفاصيل تلك العلاقة بعفوية على مسامع والدتها التي إمتلئت غيضاً من ذلك الحديث فعادت مُسرعة الى الدار تستشيطُ غضباً ....
ــ غزالة ..هيه .. غزالة أين أنتِ ؟؟
ــ أنا هنا يا أمي ...في المطبخ !!
ــ ما ألذي سمِعتهُ ياغزالة .. ما هذهِ السمعة التي الحقتيها بنا ؟؟؟
ــ ما الذي سَمِعتيهِ يا أمي ؟ عن أيةِ سمعة تتحدثين ؟ لا أفهم ماذا تعنين !!
ــ عن علاقتُكِ بجابر ولقاءاتُكِ بهِ في بيادر البلدة !!هل هذا صحيح ؟؟
ــ نعم .. كُنّا نُحِبُ بعضنا
11

ــ وأمام أنظار الناس ؟؟
ــ لا أبداً .. فقط جميلة وصديقة أخرى تعلمان بالموضوع ..
ــ إخرسي ..لا تُكملي .. لن أسامحكِ على فعلَتُكِ هذهِ ..قولي هذا الكلام على مسامعِ والدُكِ وجدّكِ وأشقائُكِ ...
ــ ماذا ؟؟ أمام أبي ؟؟ لا يا أمي أرجوكِ دعي هذا الموضوع بيننا لأنهم سيذبحونني ، أرجوكِ يا أمي دعي الامور تسير على مايُرام ..
ــ لا يهمُني ماذا سيفعلوا بكِ ، لم تحسبي حساباً لأحد وترتكي سمعتنا عرضة لألسنة نساء الجيران وربما أهالي البلدة كلّهم ، من أينَ لنا أن نعلم ربما يخجلوا من البوح لنا بأعمالكِ ؟
ــ لا يا أمي ... أتوسّل إليكِ .. إنها علاقة عادية وهاهو يتقدّم للإرتباط بي ..
ــ ومن أين أضمن عدم بوح رجال الجار لوالدكِ وجدّك عن لقاءاتكِ ..هه ..حينها سيقتلونني ولا يُحاسبوكِ على شئ .. لا يمكنني إخفاء الموضوع حتى لو تحطّمَ كل شئ!!
ــ لو تحدثّتِ لهم سيكون مصيري أسوَداً يا أمي ..
ــ تحمّلي تبعات أعمالُكِ ..
تجمّعت الاسرة على العشاء وكانت الأم مُصمِّمة على البوح بما إستمعتهُ أُذناها إلى زوجها وأبنائها والجدّ والجدّة اللذين يشاركان الاسرة همومها ، كانت غزالة قلقة للغاية لأنّها تعلم مُسبقاً طبيعة ردود ألأفعال ألتي ستُوجّه نحوها وأنَّ أليوم لن يمرَّ بسلام أبداً أمام تصميم والدتها ، راحت تهّم بنقل أواني الطعام الى المطبخ وهي تائهة لا تعلم بالضبط كيف ستكون نهايتها ، كانوا يتهامسوا فيما بينهم وهي منشغلة في غسل الاواني ...وفجأةاً وقفَ جدّها فوق رأسها دون أن تشعر بهِ سحبها بقوة بقبضتهِ اليمنى التي تكاد تكون مؤلّفة من الحجَر وليسَ من العظم وقذفَ بها الى باحة الدار وطلبَ منها الاجابة على ما تقولهُ والدتها ، صعقتها تلك القبضة حتى أنها أحسّت بأنَّ رجال الموت يقفون فوق رأسها وليس جدّها ووالدها وإخوتها ...
12
ــ تكلّمي ..هل ما تقولهُ والِدتُكِ صحيح ؟؟؟
لم تتفوّه بكلمة حتى جائتها صفعة قوية من والدها جعلتها تفقد سيطرتها على حركةِ يديها وقدميها وبدت لها الضربة كما لو كانت معولاً من حديد جعلت أُذنيها تفقد ألقدرة على التمييز بين الاصوات من خلال ذلك الطنين الذي ملئها ، لم تكن ترغب في الوقوف على قدميها خوفاً من صفعات أخرى فمكثت في مكانها تستند بطرقة ملتوية على الارض ،كانت تدرك أنَّ هناك وضعاً لا يمكن تجاوزهُ بسهولة قبلَ أن تخسر الكثير وهذا ما بدأت تضعهُ في الحسبان ، كان وضعاً يدفعها في النهاية للتمتع بمزاج مُعين لتجاوز حالة الهستيريا ألتي كانت تسيطر على أفراد أسرتها وهي تدرك تفسير العشق بالنسبة لهم
يكون مرادفاً للعار .. للكفر .. فهم جميعاً لم يُعطوها فرصةً لتدافع عن نفسها ، أعتبر والدها تلك التصرّفات منها كفراً بالاعراف الاجتماعية وراح يردّد على مسامعها ..
ــ وألله لن أدعكِ تشاهدينهُ ثانيةً متى ما بقيّتُ حيّاً وفيَّ قلبق ينبض !!!
ــ ولكن ...!!!
لم تتمكن من ألسيطرة على عواطفها... أجهشت على البكاء وتُتَمتِم ببعض الكلمات
ولكنهُ .. تقدَّم الآن لخطوبتي !!!
ــ إخرسي !!!
أكملَ جدها ....
ــ إسمعي .. لا يمكن تبرير ما قُمتِ بهِ
إلتفتَ نحو والدها وقال ...
ــ إسمع .. أرسل لهم في الغد جواباً وقل لهم ليس لدينا بنات للزواج ، ابن عمها أقرب لها ولا يمكن تجاوز هذا العُرف ..

13
وقعَ هذا الكلام عيها كالصاعقة فهي لا تريد أن تصل الامور معها الى هذهِ النقطة بالتحديد وتضيع أحلامها ببساطة ..كانت تُفضّل الموت عن إرتباطها بأبن عمّها وخاصةً أن يكون الأمر مفروضاً عليها بهذهِ الطريقة ، كانت تعلم أنَّ والدتها لن تتدخّل لمصلحتها وحتّى جدّتها لأنَّها تعلم جيّداً أنَّ كلامهن غير مسموع ...
تعالت في تلك الأثناء صيحات إخوتها فقد تحكّمت العصبية في تصرّفاتهم فقال أحدهم ..
ــ سأقتلهُ بنفسي ....!! من يكون جابر ؟؟ هه .. لقد تحدّانا والتقى بشقيقتنا من وراء ظهورنا وإن كان رجلاً فليُبيّن لي ذلك ..
بينما نطق شقيقهُ ألآخر
ــ من نقلَ لكِ هذا الكلام يا أمي ؟؟ ألا يمكن أن يكون كذباً أو مبالغة ؟؟
أجابت الأم
ــ كلا ..ياإبني هذا الكلام صحيح تناقلتهُ كل من جميلة وأختها وتحدّثوا بهِ أمامي ..
ــ يا للعار!!!
حاولت غزالة أن تدافع عن نفسها .. وأمام إصرارهم على عدم سماعها فشلت في إقناعهم بأن ما جرى هو مجرّد علاقة نقيّة إنتهت مع قدومهِ لخطوبتها لكن أهلها لم يتَفهّموا هذا الكلام ... كان جدّها يتحدّث عن قرارهِ بعدم الجواز لها بالخروج من الدار لحين زواجها من إبن عمّها ...
كانت تراقب حديثهُ بذهول من الطريقة التي سيتقرّر مُستقبلَها من خلالها ، راحت تصرخ بأنّها لم تفعل ما يستحق كل هذهِ الضجّة ...
لم يدعها والدها تُكمل ..وإقترب منها وراح يلّوِحَ لها بقبضتهِ التي تنّمُ عن تسلّط لم تعهدهُ بهِ من قبل ...


14
ــ إخرسي ...!!! وإدخلي إلى غرفتُكِ ..لن يكون بوسعِكِ الخروج بعد اليوم ..ولن نسمحَ لكِ بتلويث سمعتنا وتمريغ وجهنا في التراب ..جدُّكِ أعطى قرارهُ ولن يكون أمامكِ غير الطاعة هل فهمتِ ؟؟ ..أما جابر فلهُ حساب عسير معنا سنقطع لهُ لسانهُ لأنّهُ تجرّأ وتحدّانا ...
تسللت إلى غرفتها واهنة القوى وراحت تُدرك بأنَّ إرتباطها بجابر غدى مستحيلاً بعد ما حدث لها ...لكنها حمّلت والدتها وزر تلك المشكلة من الجذور فلولا حديثها لما حدث كل ذلك ...
لم تتمكّن من التركيز جيّداً ولو على فكرة واحدة لأنَّ قواها كانت منهارة ومُتعبة فكانت سلسلة أفكارها تتقطع دون أن تعلم لذلك سبباً ، كانت عاجزة عن التفكير في أي موضوع لثواني متواصلة ..لقد تحوّلَ كل شئ الى سراب ... لم تراعِ أسرتها عواطفها رغم أنّها كانت البنت الوحيدة لهم ..حتى والدتها كانت تتعامل معها على أنها حمل ثقيل على الاسرة لأنها ببساطة أنثى ..
شعرت بأنها تمثل عبئاً على أسرتها ويرغبوا في التخلص منها بشتى السبل ، فهي لا يمكنها الحديث عن رغباتها وأحلامها وسعادتها لانَّ ذلك ممنوع !! ولأن مصيرها تقرّرهُ أسرتها وليس هي ، كانت مقاومة تلك العصبية الهائجة في رؤوس أفراد أسرتها ضرباً من الجنون على الأقل في تلك الأثناء ، لأنَّ أحداً منهم لم يكن يرغب بسماعها بعد أن أخفت عنهم حقيقة لقائاتها بحبيبها ، ربما جعلتهم يعيشوا حالة من الغبن بإخفائها الحقيقة هكذا على الأغلب كان تفسيرهم للقسوة التي تحلّوا بها في طريقة علاجهم للموضوع ..
لقد إنهار كلَّشئ في لحظة واحدة لم تحسب حسابها جيداً ، في قرارة نفسها كانت تتمنى أن يكون جابر في وضع يؤهّلَهُ للدفاع عنها وعن حبّها لهُ بعد الذي حدث معها ، كانت تطرح على نفسها سؤالاً واحداً وهو في نفس الوقت أمنية كانت تجول بخاطرها بقوّة ..كيف يمكن جعل كلَّ شئ ينقلب ويعود الى وضعهِ الطبيعي ومسارهِ الصحيح ؟؟
لقد حطمت تلك اللحظات أحلامها في العيش بهناء مع الشاب الذي أحبّتهُ من أعماقها وإختارهُ قلبها وتملّكَ أحاسيسها .. كانت ليلة سوداوية بالنسبةِ لها لم تعرف فيها طعم النوم حتى الصباح ...
15
كانت عيناها تكشفانها أمام أهلها ولا تتمكن من التعبير عمّا يجول بخاطرها لأنها فقدت تماماً ثقة أهلها وأصبحت عاجزة عن فعل شئ يمكّنهم من الإصغاء إليها ،الحيرة راحت تسيطر عليها وتكاد تحطّمها ، ربما كان أكثر ما يهمّها في تلك اللحظات هو معرفة حبيبها بما يحدث لها فهو شعور سيطر عليها بصورة عفوية وفرض نفسهُ على تفكيرها ومشاعرها ...
تصرّفت الأسرة وأرسلت جواباً لأهل جابر يُخبرونهم فيه بعدم موافقتهم على الخطوبة وتحجّجوا بأن للفتاة أبناء عمومة وهُمْ الأوْلى بها حسب الأعراف العشائرية السائدة ، لم يكن جابر قادراً على إستيعاب الخبر ألذي وصلهُ برفض أهل حبيبتهِ لهُ ... شعرَ بأنَّ هناك شيئاً ما يقف خلف هذا الرفض لا يعلم عنهُ شيئاً ، حتى والدتهُ شعرت بالغرابة من الرفض لا سيما وأنها لاحظت سعادة غزالة وإنشراح عواطفها عندما ذهبت لدارهم ...
راح يراقب مراعي الأغنام الكائنة في بيادر البلدة علّهُ يجدها ويفهم سبب ذلك الرفض ..كانت عواطفهُ مضطربة لم يكن قادراً على تحديد طبيعة الخطوة التي يمكن لها أن تعيد إليهِ الثقة بما حولهُ ...
تفاجئ بقدوم والدتها بدلاً عنها فسارعَ الى الإختفاء عن الأنظار وتجّهّمَ وجهُهُوإقتضبت أفكارهُ ..شعرَ بعدها بخيبة أمل مريرة .. عاجزاً عن فعل شئ ، فكرَ بالذهاب إليها في الدار والإستفسار من أهلها عن سبب رفضهم .. لكنهُ ما أن تذكّرَ الطريقة الجافّة التي يتعامل بِها والدها مع الآخرين حتى عَدِلَ عن التفكير بالذهاب .. فما الذي يمكن أن يفعلَهُ عندما يتحدّاهْ شخصٌ ما وفي موضوع إجتماعي حسّاس كهذا ؟؟ لم يكن يشّكُ في أنّهُ سينتهز الفرصة ويُشبِعهُ ضرباً كي ينتقم لنفسهِ من الشئ ألذي يعتبرَهُ مُهيناً لكرامتهِ ..
إستمرَّ ذهابهِ للمراعي طوال إسبوعين علّهُ يجدها ويتمكن من الحديث معها ... لكن محاولاتهِ بائت بالفشل .. أسرتهِ كانت تُدرِكُ جيداً طبيعة معاناتهِ ورَثَتْ لحال إبنها وهي تشاهدهُ يوميّاً يتلّوى أمام أنظارها دون أن تتمكن من فعل شئ لهُ ...
لم يكن أمامها سوى تهدئة خاطرهِ ومحاولة إمتصاص ذلك ألحزن ألذي يعتمر في قلبهِ بسبب عدم قدرتهِ على تحمُّلِ غيابها عنهُ وفشلهِ في ألوصول إليها ... كانت سجينة .. هذا ما لم يكن يخطر لهُ ببال ...
16
حائراً طوال الوقت ويتخوف حتى من البقاء بمفردهِ في مكانِ ما لأنّهُ كان يشعر بإنهيار عواطفهِ وإصابتهِ بالقنوط من الحياة وهي حالة جعلت منهُ مهموماً عاجزاً عن فعل شئ ، ومع غروب الشمس كلَّ يوم يذهب الى تلك البقعة التي كانت تجمعهُ بها في البيدر ليستمتعا معاً برؤية الغسق ..كان يعشق تلك اللحظات بعمق ولا يعلم السبب ألذي حوّلَ تلك اللوحة السماوية الجميلة ألتي كانت تلهِمهُ بالكثير من الأفكار الى مصدر للحزن بينَ ليلة وضحاها ؟ مُستغرِباً من إنقلاب الطبيعة ضدّهُ فجأةاً ..
يتأمّلَ تلك المراعي الجميلة ويتحسّس نسمات الهواء العليل وتلك الرائحة التي تخلّفها الأغنام في أماكن تجمّعِها ، ذلك الهدوء الذي يتسلّل إلى دواخلهِ ويجعلهُ يرتعب من الخوف ويفكر بالهروب ... يشعرُ بشوقٍ عميقٍ لها ...يتذكر تفاصيلَ وجهِها والوانِ ملابسِها وعيناها اللتان كانتا تأخذانِهِ الى عالمِ بعيد من الأحلام والألفة والشعور بالطمأنينة وعبق الحياة .
فجأةً ... خطرت لهُ فكرة حوّلت لهُ مسار أفكارهِ ... حتى أنَّ الدماء راحت تجري في عروقهِ بسرعة أرعبتهُ في البداية .. فكرة خارقة أوحتْ لهُ أنّ مُجمَل الحلول التي يمكن لها أن تُخرِجهُ من ذلك الإطار المُظلِم تجمّعت عند فكرة واحدة ... لقاء جارتها جميلة وصديقتها التي كانت تعلم ببعض التفاصيل .. وسؤالها عن الأسباب التي دفعت أهل غزالة لرفضهِ ..
كانَ يعلمُ جيداً أنَّ أيّاً من أبناء عمومتها لا يرغب بالإرتباط بها أو التقدّم إليها ... نهضَ فجأةً .. عائداً إلى دارهِ مُشبعاً بالأمل فهو بأمَس الحاجة لهُ ..يأمل بأن تحقق لهُ مُبتغاه وتنقِذُهُ من الحيرة التي تخنُقهُ وتحطم أعصابه ..إكتشف أنّها فكرة جيدة ستقودهُ لمعرفة الحقيقة ..
حتّى أنّ شعوراً ما قفزَ الى السطح جعلهُ يثق بالظفر بها ...
لم يكن من السهلِ عليهِ بلوغ هذا الهدف بسهولة في مجتمع لا تزال مجموعة من القيَم تتحكم فيهِ تشبهُ الأيقونات الإلهيّة الغير قابلة للتغيير ... مجتمع معظم أفراده يتغلغل الجهل في نفوسهم حتى النفَس الأخير ... والنظر الى القضايا العاطفية أشبهَ ما يكون بالعار الذي لا يمكن محوهُ من السيرة الذاتية للمرء حتى وإن كان علاقة حبّ بريئة ...
وقعت غزالة تحت سطوة أهلها ...
17
فقد منعوها حتى من الخروج أو الجلوس عند عتبة باب الدار الخارجية كما كانت تفعل مع جاراتها من بنات محلّتها ... وأصبحت حركتها داخل الدار مُراقبة .. من والدتها ..وكذلك من جدّتها .. راحت تشعر بكابوس رهيب يجثمُ على صدرها .. يُؤرِّقها ويحوّل حياتها تدريجيّاً إلى جحيم لا يطاق ... تتوق للخلاص منهُ بأيّ ثمن ...
جارتها وصديقتها جميلة كانت مُستغرِبة من رفض أهل غزالة لجابر .. كانت هي الأخرى تحاول معرفة السبب الرئيسي وراء ذلك الرفض فهي كانت تعلم بتفاصيل كثيرة وشعرت بحزن عميق من نهايتها بتلك الطريقة .. دخلت ذات صباح دار غزالة كي تستفسر عن الأسباب ألتي تمنعها من الخروج والجلوس معهن ، ورغم شعورها بأنَّ جدّة غزالة لم تستقبلها بشكل لائق إلاّ أنَّ ذلك لم يكن يعني لها شيئاً أمام ما جائت لأجلهِ ...
ــ كيف حالُكِ غزالة ...؟
ــ حالي يُبكي الصخر ياجميلة !!
ــ لماذا ؟؟
ــ كيفَ لا تعلمي ..؟ وانتِ سبب كل هذا البلاء الذي أعيشهُ ...
ــ أنا ..؟ كيف ..؟ لا ..أفهم ..ما تقصدين ..
ــ منذ أن تحدثتِ لوالدتي عن لقائاتنا أنا وجابر في بيادر البلدة إنقلب كلَّ شئ ضدي ..أقسم أهلي أن لا أخرج من الدار إلاّ متزوجة أو ميّتة ... ألم تتمكني من الصبر ولو يومين آخرين ..؟؟؟
ــ يا لحظكِ العاثر !! كنتُ أتصوّر أنَّ كل شئ إنتهى ... شاهدّتُ والدتُكِ فَرِحة للغاية وإعتقدتُ أنَّ كل شئ إنتهى ..لقد تسببتُ بخراب عيشتكِ يا غزالة .. كم أنا غبيّة ؟؟

18
كانت ملامح وجه والدتكِ توحي بموافقتها وشعورها بالسعادة ، لقد تخيّلت ان الموضوع انتهى !! تصرفتُ بعفوية دون قصد لا اعرف كيف فعلت ذلك ارجو ان تسامحينني ، سأفعل ما بوسعي لتصحيح هذا الخطأ ...
ــ انا لا الومكِ .. فقط حظي العاثر هو الذي تحكم في كل شئ ..
ــ وجابر .. كيف كان رد فعلهِ ؟؟
ــ لا أعلم .. اكيد انهُ يحتار في تفسير رفض أهلي لذلك ارجو ان تبلغيهِ تحياتي واشرحي له كل شئ علهُ يتمكن من ايجاد مخرج لنا ..
ــ اكيد ..سأبذل كل جهدي لمساعدتكما ... لقد ألحقتُ بكما أذاً كبيراً وارجو ان اتمكن من تصحيح هذا الخطأ !!
ــ انا لا احمّلكِ المسؤولية ..لأن هذهِ قسمتي في الحياة وحظي العاثر .. اهلي لا يفهمون ماذا يعني ان يعشق المرء ولا اتوقع منهم اكثر من مواقفهم هذهِ ..
ــ حسناً ..سأحاول اللقاء به ..مسكين يأتي في بعض الأحيان للبيادر علّهُ يتمكن من لقائكِ ربما يريد ان يفهم ..لا أعتقد انهُ يجازف بالقدوم إلى محلتنا لأنهُ سيثير بذلك مشكلة كبيرة على ما اعتقد ..
ــ كم انا مشتاقة له ؟؟ اعلم انه عاجز الآن عن فعل شئ ...
ــ لا تقلقي سأحاول لقائهُ وتبليغهِ بالذي حدث معك ..سأذهب الآن ونلتقي فيما بعد .
ــ اتمنى ذلك ..
تألمت جميلة في قرارة نفسها على حال صديقتها ، وأدركت جيداً حجم المشكلة التي تسببت فيها ، راحت تلوم نفسها دون جدوى فاللوم في مثل هذهِ الحالات قد لا ينفع شيئاً ، رغم شعورها هذا إلاّ أنها إستغربت ردّ الفعل العنيف من أهل صديقتها واسرتها ..


19
كان جابر يحمل في ثنايا أفكارهِ اللقاء بجميلة بالتحديد لانها كانت على الدوام ملازمة لحبيبتهِ وهي بلا أدنى شك تحمل في جعبتها الاخبار بتفاصيلها الدقيقة ، وبين رغبتهِ اللقاء بها ووعدها لصديقتها تجمعّت الاحداث عند تلك الرغبة المبررة للاثنين ، والحقيقة انهُ لم يكن سهلاً التفكير بخطوة كهذهِ في مجتمع تكبّلة الاغلال وتقيّدهُ بعادات وتقاليد أقل ما يقال عنها انها كانت بالية ورثة !!
حزم امرهُ في نهاية الامر وراح الى بيادر البلدة للقاءها كان هدفهُ واضحاً بالنسبة اليه اللقاء بها ومعرفة اخبار حبيبتهِ والخروج بنتيجة مهما كانت كي يحدد الخطوات التي سيقوم بها فيما بعد ،لم يسبق له الحديث معها في ايّة مناسبة وحول ايّ موضوعٍ كان وبلوغ غاية من هذا القبيل لم يكن بالامر السهل في مجتمع تقيّده الكثير من الاغلال وتحيط به خطوط الجهل بطريقة تحرمه الحركة ،كانت تسير مع بعض من صديقاتها وعند دخولها تلك المنطقة القريبة من التلة الصغيرة المطلّة على البيدر ادركت بذكاء سبب وقوفهِ وانتظاره في ذلك المكان بالتحديد إستجمعت شجاعتها وتسربت بهدوء من مجموعتها وإقتربت منه ،كان هو الآخر يحمل نفس المشاعر غير انها رأت الاضطراب يعتلي ملامح وجهه فبادرته بالسؤال لتزيل كل الوان الخوف من داخلهِ دفعة واحدة ..
ــ مرحباً .. لا بد انك تنتظر غزالة هنا ؟؟
ــ مرحباً انتِ صديقتها أليس كذلك ؟ في الحقيقة انا مللت من انتظارها في هذا المكان وقررت اللقاء بك كي استفهم حول الموضوع .. ما الذي حدث ؟؟ لماذا رفض أهلها خطوبتنا ؟؟ أكيد انها حكت لكِ سبباً مقنعاً ..؟
ــ مهلاً .. أعلم أن الكثير من الاسئلة تراودك وتدخل الحيرة الى قلبك ، لكني أود أن أقول لك انها ممنوعة من الخروج من الدار لقد علم أهلها بتفاصيل علاقتكم وهو السبب الذي وقف خلف رفضهم الموافقة على الخطوبة ، لقد تسببتُ دون وعي في التأثير على موقفهم لم أكن أتوقع أن تصل الأمور الى هذا الحد .. مسكينة غزالة انها تعاني كثيراً انت تعلم والدها يمتلك نفسية معقدة الطراز ويعتبر اية علاقة حب بين اثنين عاراً إجتماعياً ..
ــ وكيفَ تسببتِ في التأثير على موقفهم ؟
ــ سأحي لك ما جرى بالتفصيل ...
20
جاءت والدتها الينا بعد ذهابكم لخطوبة غزالة في اليوم التالي .. كان ذلك صباحا كنت مع والدتي نعد الخبز وللوهلة الاولى اكتشفت ان هناك غبطة عميقة تكمن في دواخلها ولم تنتظر حتى راحت تعبّر لوالدتي عن سعادتها لان ابنتها تقدّم لها شاب يرغب في الارتباط بها وتعلم ان سعادة الام في مثل هذه اللحظات ربما يصعب وصفها ..كانت تقاسيم وجهها توحي بانها ممتنة لذلك وراحت تحكي عن اهلك بطريقة ودية قلما رأيتها تمتدح أحداً بهذا الشكل من قبل هذا ما أدخل السرور والطمأنينة الى نفسي وارتحت لانهم سيوافقون بعد ذلك الحديث ،رحت مازحة أكي لها عن لقاءاتكم في بيادر البلدة والحب الذي جمعكما ،كان ذلك تصرفاً ساذجاً مني جعل الأمور تنقلب عليكما لقد تغيّرت ملامح وجه والدتها حتى أنّ المرء لم يكن بوسعِهِ تفسير تقاسيم وجهها تلك ...
لقد تحدثت مع غزالة هذا الصباح وكانت متفهمة لما حدث كل ما كنت أرغب بقولي لها أن علاقتكم كانت شريفة وعادية ...
ــ لا أعرف ماذا أقول لكِ ... انا من طرفي ليس بوسعي إلاّ ان أسامحكِ ..
ــ المهم ان تعلم جيداً ان غزالة ممنوعة من الخروج من الدار .. لقد فرضَ أهلها عليها شرطاً قاسياً للغاية وهو ان خروجها من الدار سيكون في حالتين فقط يإما لبيت زوجها أو للقبر ..
ــ وما الذي سيستفادوه من الوقوف في طريق سعادتنا ؟؟
ــ هذا السؤال يجب أن يوّجه الى والدها ..
ــ وما هي أفكار غزالة ؟ هل إستسلمت للأمر الواقع بهذهِ السهولة ؟؟
ــ وما الذي يمكن لها فعلهُ ؟ أنسيت أنها أنثى ولا حول لها ولا قوة ؟؟
ــ لا لم أنسى ولكن .. ماهو الحل ؟
ــ لا أعلم لكني أرغب فعلاً بمساعدتكما في المصيبة التي تسبّبت بها لكما ...
ــ إسمعينني جيداً .. أبلغيها أنني أحبها ولن أتخلى عنها مهما حدث ، حتى لو كلفني ذلك حياتي ..سأفكر بحل ما وأبلغكِ بهِ فيما بعد يجب أن تتسلّح بالصبر بلغيها ذلك ..
21
ــ حسناً سأبلغها ذلك ..سأذهب الآن قبل أن يرانا أحد
ــ حسناً سنلتقي قريباً في هذا المكان لا تنسي ذلك مع السلامة
ــ مع السلامة ...
لقد شعرَ بعد سماعهِ لأخبار حبيبتهِ أنَّ العالم يتغيّر من حولهُ لم يكن قادراً على تحديد طبيعة المشاعر التي تنتابهُ تارةً يسيطر التشاؤم عليهِ وأخرى يرى أن الإرادة التي يمتلكها قادرة على إحداث تغيير ما في الحدث وانَّ عليه خوض صراع من نوع معين مع المجتمع والعاداة والتقاليد ، لم تكن الحلول المُتاحة أمامهُ واسعة بقدر ما كانت مقتضبة وخالية من منابع الأمل ، كان يتوق للبحث عن مخرج يُعيد إليهِ حبيبته التي ضاعت من بين يديهِ لسبب ربما لم يكن يعلم أنّهُ سيقودهُ إلى هذا الموقع من التفكير...
حتى أهلهُ لم يكونوا مقتنعون بما حدث من رفض لطلبهم لكنهم إستسلموا للواقع الذي فرضهُ والد غزالة على الجميع وراحوا يحاولوا مساعدة إبنهم على تجاوز محنتهِ .
كان يسخر من تلك الآراء التي تحضّهُ على نسيانها والتفكير بالمستقبل فهو لا يستطيع تخيّل حياتهُ دونها ربما إنحسرت نظرتهُ للامور من تلك الزاوية فقط وهي التي ربطتهُ بعالم العاطفة والحب لاول مرة...
كانت غزالة مدركة للواقع الذي يتحكم بها ولم تفكر في تجاوز الحواجز التي وضعها والدها في طريقا فهي تعلم جيداً انها عاجزة وضعيفة الحيلة امام تفكيره والأعراف البالية التي تتحكم في تفكيرهِ وكذلك أدركت ان القرار الذي إتخذهُ نهائي ولايمكن لأيّةِ قوة في الطبيعة التأثير عليهِ وتغييره لا سيما بعد شعورهِ بأن جابر تجاوز العاداة والاعراف التي كانت تتحكم في حياة المجتمع ، والحقيقة أن الانسان في مثل هذهِ الحالات يتحكم في طبيعة
حياتهِ .. لقد كرَهَ جابر حد الموت لكنه لم يتمكن من فعل شئ له لانه كان يتخوّف من ان يؤدي ذلك الى نزاع عشائري ...

22
عاد جابر يفكر بطريقة تقنع أهلها بالعدول عن رأيهم الذي إتخذوه كرد فعل على سماعهم المتأخر لقصة حبهِ مع إبنتهم ، كان يتمنى ان تنتهي على خير في جميع الاحوال ، لم تكن أفكاره تتركز على إتجاه معيّن يمكن له ان يتحرّك في إطارهِ ومحاولاتهِ كُلّها فشلت ، فكّر في الاتصال بصديقهِ للحديث معهُ بهذا الخصوص علّهُ يتوصّل إلى حل ينقذهُ من المحنة التي يعيشها .....
كانت غزالة قد تمكنت من الوصول لقناعة مفادها ان جابر هو الوحيد القادر على إيجاد الحل لما يعانياه لكنها كانت مقيّدة لا تتمكن من الحديث معه وإيصال أفكارها لهُ .. كان وسطاً ضيّقاً للغاية ذلك الذي تعيش فيه ....
جاءتها جارتها مُحّملة بأخبار اللقاء الذي دار بينها وبين جابر وراحت تروي لها التفاصيل
لم يكن سهلاً عليها تحمّل تلك اللحظات لكنها كانت تصغي بعاطفة أكثر ربما لانها لم تكن
تعي بعد ثقل الواقع المُر الذي يتحكم بحياتها ، ورغم انها إمتلئت بهجة لسماعها لتلك
الاخبار إلاّ أنَّ إحساساً ما تسلل الى دواخلها في نفس الوقت عكر عليها تلك البهجة فقد كانت مُدركة ان هناك عواقب كثيرة تقف أمام تحقيق امنيتها في الارتباط بحبيبها ..
ربما لن يكون من السهل أبداً تحقيق حلمها لكنها كانت تحاول التمسّك بخيوط الأمل حتى يتمكن حبيبها من تغيير ذلك الواقع المُرّ الذي فُرِضَ عليهما ..
أخذت أفكار جابر إتجاهات مختلفة كانت تبحث في طريق يمكنهُ من تحقيق حلمهِ هو الآخر ، ومن بين تلك ألإتجاهات برز أحدهم بقوة وهو تحدي ذلك القرار الذي إتخذهُ والدها والتمرّد عليه !! بدأ لمعان الفكرة وبريقها يزداد في نفسهِ ليحتل المكان الأبرز بين تلك الافكار ..شعر بشئ من النشوة تنتابهُ وهو يسلط تركيزه على محتواها فقد كانت مثيرة ومغرية فعلاً لكن المجتمع الذي يحيط بهِ تحكمهُ منظومة من الاعراف الاجتماعية ترسخت في نفوس البشر دون ان يدعو أحداً لدراسة طبيعة تلك الاعراف ، صحتها من عدمه ؟ أو ملائمتها لحالة التطور الذي
23
يصاحب الزمن ، تملكهُ الخوف وكان يحاول تلافي ذلك الشعور الذي تحكم بهِ حتى أنّهُ تخوف من التفكير بصوت مسموع ...
قرر أخيراً الاستعانة بصديقهِ ربما يتمكن من مساعدته في التفكير والخروج من تلك الدوامة التي راحت تحاصر أفكارهُ ..لم يضع في حساباته ان يطلب مشورة صديقهِ او حتى أهلهِ لانهم حسبما تصوّر غير قادرين على تفهّم تلك المشاعر التي تربطه بها على وجه دقيق ...
كان رأي صديقه يتمثل في ضرورة معالجة الموضوع بطريقة حاسمة بدلاً من تركهِ على هذا الحال لا سيما وان أهلها قد إتخذوا موقفهم دون أن يضعوا في حساباتهم أيّةِ تأثيرات أخرى وربما قرروا الانتقام منه في حالة إنفرادهم به في مكانٍ ما ، كان صديقهُ يحدثه بلغة صريحة واضحة تجعلهُ يفهم جيداً ما الذي يتوجب عليه القيام بهِ ....
ــ كيف يعني النظر الى الموضوع بطريقة أخرى ؟؟؟
ــ يجب أن تفكر بالطريقة التي يفكروا هم بها ....التحدي ..
ــ التحدي !!! ماذا تقصد ؟؟
ــ ألم يرفضوك لأنك إلتقيت بابنتهم دون علمهم ؟ وهو سبب تافه طالما أنك تقدمت لخطوبتها وأن نواياك لم تكن سيئة ولا يوجد مبرر لرفضهم ، بل أرادوا من خلال هذا الموقف تحديك وحرمانك من إبنتهم ..أليس الأمر كذلك ؟؟
ــ لم أفهم ماذا تقصد بالتحدي لحد الآن !!!
ــ إخطفها !!!
ــ ماذا ؟؟ أخطفها !! هل أنت مجنون ؟؟
ــ لا ... أبداً ..!! ربما الفكرة جنونية لكنها علاج لهذا الواقع ، وأنا واثق من أنَّ غزالة هي الاخرى ستوافق على هذا الحل ..لن تكونوا أ,ل من يفعل ذلك ..ولا آخرهم ..والبلدة مليئة بقصص من هذا النوع ولا داع لتحويل الأمر الى نوع من المحظور ..
24
كل شئ جائز الحدوث في مثل هذهِ الحالات وسيمثل أكبر تحدي لهم إن نجحت
ــ فكرة جهنمية !! لم تخطر لي بهذهِ القوة ... يالك من عبقري !! فعلا ً هذا هو الحل الوحيد ..
ــ فكر في الموضوع جيداً وسأكون عوناً لك على تحقيقه ...
ــ سأفكر وان وافقت غزالة لن يكون أمامنا سوى التنفيذ ..
أدركَ أخيراً أنّ الأبواب مفتوحة أمامه ، وأنّ هناك الكثير من الأمل يرتسم على ملامح الأفق العاطفي الذي يحركه ، ما كان يدركهُ أيضاً هو ان حبيبته ستطيعه إذا ما عزم على تنفيذ حلمه في الزواج بها بهذه الطريقة لان لا خيار آخر أمامهما لفعلهِ .. ما كان يخشاه فعلاً هو طبيعة ردود الأفعال على خطوة كهذهِ سواء من أسرتهِ أو أسرة حبيبتهِ ، فالمعلوم في ذلك الوسط أن خطوة كهذهِ قد ينجم عنها جرائم لن يتمكن من التحكم بها طالما أنَّ ذلك الوسط الإجتماعي تغلفهُ العقلية العشائرية الضيقة ....
تذكر صديقة غزالة وجارتها التي أبدت الإستعداد لمساعدتهما فهي القادرة على لعب دورٍ ما في طرح الموضوع على حبيبتهِ وأخذ رأيها ، كانت الفكرة تتحكم بهِ تدريجياً ورغم أنها لا تزال في بدايتها إلاّ أنهُ كان يتوق لمعرفة رأي حبيبتهِ وجسّ نبضها فهو يدرك أنها تحبه الى أبعد حد لكنه لم يكن يرغب في التسّرع وتدي ذلك الواقع الذي فُرِضَ عليهما ...
لم تكن غزالة تُدرك في تلك الأثناء أنَّ والدها يعد العدة لزواجها مع إبن عمها ماهر الذي لم تكن قادرة على تقبّلهِ ذات يوم أو حتى إستيعاب أحاديثهِ الغبية التي كانت تبعث في نفسها التقزز من الحياة ، إتفق والدها مع عمها على ذلك في إحدى الأمسيات وأبلغا العائلتين بالخطوبة التي تنتظر غزالة دون الأخذ برأيها فهم رأوا انهم ليسوا بحاجة لرأيها كما جرت العادات والاعراف الاجتماعية السائدة في ذلك الحين ... فجّرَ ذلك الغيض والغضب في داخلها وشعرت بأنَّ ظلماً كبيراً يقع عليها وغير قادرة على تحملّهِ حتى أنها فكرت بالانتحار ، لم قادرة على البوح برأيها في

25
تلك الأجواء لانها لم تكن تحظى بتعاطف أحد من أهلها وكانت مُدركة ان حياتها إذا ما قدِّرَ لها أن رُسِمتْ بهذهِ الطريقة فذلك يعني انها ستعيش أبد الهر في عذابٍ دائم ....
كانت طريقة الزواج من خلال هروب الحبيبين معاً والتمرّد على النظام العشائري سائدة منذ وقتٍ طويل لكن الإقدام عليها كان يتسبب في إحداث مشاكل إجتماعية خطيرة تصل حد العداء والانتقام المتبادل ...
أي أنها لم تكن غريبة وفي بعض الأحيان كانت تثير الضحك بين الناس لانها كانت تتضمن تفاصيل مضحكة لكنها تثير الغيض في نفس الوقت لدى العوائل التي كانت ترفض إقتران بناتها بالغرباء عن العشيرة ...
كان العالم يبدو لها مُظلماً تدريجياً وفي أغلب محاولاتها للنظر الى الأمام وتصوّر حياتها المستقبلية دون هذهِ المشاكل كانت تفشل في جعل تلك الأحلام تستقر عند حدٍ مطمئن ، أو أنها كانت متشائمة بطريقة واضحة في إرساء نهاية واضحة في خيالها لقصة حبّها ...
تعيش على الأمل لا غير وهي متشبثة بهِ حتى النفس الاخير وتدرك أنَّ أفضل الحلول لمشكلتها سيعني القطيعة التامة مع أهلها وتحدي ذلك النمط الإجتماعي المغرَق في الظلام والذي تتمسّك بهِ أسرتها رغم ذلك ، وبين حيرتها في القضاء الذي فرضتهُ الأسرة عليها وبين إختفاء أخبار حبيبها عنها لبعض الوقت كانت حائرة في خياراتها وعاجزة عن فعل شئ ..
أما جابر فقد تمكن من لقاء جميلة ثانيةً في بيدر البلدة وعرضَ عليها فكرته وطلب منها نقلها لغزلة وأخذ رأيها في فرض الأمر الواقع على الجميع مهما كانت النتائج ، لقد أصبحت حبيبتهِ بالنسبةِ له عالماً متكاملاً بحد ذاته والعيش دونها يوازي العيش في عالم بلا معنى أو هدف ..!!
كان إبتعادهُ عنها يشل تفكيرهِ ويجعلهُ عاجزاً عن فعل شئ ، كانت عزيمته تتراجع في بعض الاحيان لا سيما عندما يتذكر أن هناك مهمة صعبة في إنتظارهِ وينبغي عليه إنجازها فهي قد تغير مجرى حياته بالكامل ، فهي مغامرة لا يمكن التنبؤ بعواقبها ولم يختبر أهلها في هذه النقطة !!
26
أعطت له فكرة الهروب بحبيبتهِ الأمل في البقاء والاستمرار والتفكير بالمستقبل ، واعتبر الصِعاب التي ستواجهه بمثابة الثمن او التضحية التي ينبغي تقديمها في سبيل سعادتهما ، قرر التخلص من الهموم التي تثقل كاهله تدريجياً كي يتمكن من ضبط أوضاعهِ ويبحث في الطريقة الافضل التي تجعلهُ يغادر البلدة مع حبيبتهِ دون ضجيج ...!!!
كانت غزالة تعيش حالة من الغرق في التفكير لا تتمكن من تحديد شئ ما يثيرها أو يجعلها تشعر بالأمل لأنها لا تمتلك أفقاً يثري حياتها في جوانب أخرى غير العاطفة ، من هذهِ الزاوية بالتحديد شعرت بأهمية حياتها وكذلك بوجودها كمخلوق .. كانت الفتاة لا تتجرأ على إبداء رأيها في موضوع حياتي معيّن وحقوقها مسلوبة منها دون ان تتمكن من فعل شئ فهي مقيّدة بمنظومة متكاملة من العادات والتقاليد البالية التي تحّد من حركتها في المجتمع وتجعلها أسيرة لها ...

من المهم القول ان لقاء جميلة بجابر جاء قبل ان يتوصل الاخير لفكرتهِ في خطف غزالة التي إقترحها عليه صديقه لذلك لم تكن قد علمت بالمستجدات التي طرأت على مجرى الموضوع وعندما ذهبت لجارتها لتخبرها بتفاصيل اللقاء الذي جمعها بجابر ...
ــ كيف حالك ؟؟
ــ انا بخير .. متلهفة لسماع أخبارهِ
ــ جابر يحبكِ لا تقلقي !!
ــ أعلم ذلك جيداً وانا متأكدة من حبه لي لكن نهايتنا كيف ستكون ؟؟ هذا ما يجب ان ندركه
ــ يفكر بطريقة تنقذكم من هذه المحنة بسرعة ، ربما يفكر بعمل شئ ما ؟؟

ــ أتمنى ذلك وإن حدث شئ كهذا سيكون لي بمثابة المعجزة ، المشكلة انني لا أرى أيَّ أمل .. لا أعلم لماذا بالغ أهلي في ردّ فعلهم وكذلك في وصف علاقتي معه بهذه الطريقة ...
27

ــ إنتظري ..ولا يكمن غير الانتظار أمامكِ علّه يتمكن من فعل شئ ما يجعلكما تعودان لبعضكما ثانيةً !! سألتقيه مرة أخرى وأرى بماذا يفكر هو الآخر حزين لما حدث وأصبح تائهاً في طبيعة أفكارهِ ...
ــ فوق كل ذلك يريدون لي الارتباط بإبن عمي ماهر ... لا أستطيع أن أصف لكِ كم أحتقر تصرّفاتهِ حتى أنهُ في بعض الأحيان أشعر أنه لا زال طفلاً وبحاجة للمزيد من التربية ولكن لا أتجرّأ على قول ذلك لهم ، لقد تسبب لأهلهِ بالكثير من المشاكل بسبب سوء تصرفاتهِ وسلوكهِ ومعاكساتهِ المستمرة للفتيات ، قبل فترة هاجمهُ إثنين من الشبّان وأشبعوه ضرباً لسوء أخلاقهِ حتى عمي وأبناءهُ الآخرون أعطوهم الحق بعد إطلاعهم على فعلتهِ !! لكنهم لا يحاسبوه لأنّهُ ذكر أما نحن فلنذهب إلى الجحيم طالما أننا نساء ، المهم أن يعبروا عن رجولتهم على حسابنا هو هذا واقع حالنا ...
ــ هل تعلمي أفكر في بعض الأحيان بجمعكما ببعض لا أعلم كيف يمكنني فعل ذلك وأين ؟؟
ــ ياريت !! أتمنى ذلك على الأقل كي أرى وجههُ ثانيةً قبل أموت ...
ــ لا ..لا تقولي ذلك ربما تعيشين عمراً طويلاً وملئ بالسعادة ..
ــ اتمنى ذلك ....
لم تكن تلك الهموم التي سيطرت عليها أو حتى على حبيبها تعني لأهلها شيئاً لأنهم أنهوا الموضوع منذ تلك اللحظة التي أرسلوا فيها جوابهم القطعي لأهل جابر ، كان والدها مُصمّماً على تزويجها لإبن عمها ، الشئ الذي جعلها تعيش تفاصيل معاناتها بقسوة هو خضوع جميع أفراد أسرتها لوالدِها وجدّها ، لم تجد أحداً يقف معها أو يواسيها حتى والدتها التي كانت تعوّل على حنانها لم تفعل شيئاً بقدر ما تسببت في المشكلة من الأساس كانت هناك رغبة من الجميع في تلطيف مواقفهم وتصرفاتهم أمام رب الاسرة ليس إلا !!!
تبلورت أفكار جابر جيداً بإتجاه الهروب معها الى سنجار أو أيّ مكان آخر يتمكن من فرض إرادتهِ فيه حتى تخف العاصفة التي ستحدثها عملية الهروب هذهِ ..

28
كان واقع الحياة الاجتماعية يفرض عليهِ الحذر لأنَّ الإقدام على خطوة كهذهِ يحتاج إلى إحتياطات عالية خوفاً من طارئ ما يؤدي الى مواجهة مع أهلها ، ربما ساهمت هذهِ الفكرة في إنقاذهِ من الحيرة التي سيطرت عليهِ طوال فترةٍ ليست بالقصيرة ، كانت أفكاراً شتى تتقاذفه ... تارةً تقودهُ الى السكينة .. وأخرى الى الحيرة الداخلية التي تجعلهُ عاجزاً حتى عن النوم ...
لقد جعلته تلك الصدمة ينتقل من الغوص في الأحلام الى عالم الجدّية والتفكير اليقظ الخالي من العفوية والأوهام وشعر أنَّ ثمن حبه لغزالة سيكون باهظاً في أقل تقدير حتى يتمكن من العيش معها تحت سقف واحد ...
كان يفكر بمفاتحة أسرتهِ بالأفكار التي تسيطر عليهِ وكذلك بفكرة خطف غزالة والذهاب بها بعيداً عن عيون أهلها وعيون أهالي البلدة ، لكنهُ مكث في مكانهِ متردّداً لبعض الوقت خوفاً من أن يتسرّب الخبر وتضيع عليهِ الفرصة الوحيدة لتحقيق حلمهِ وأملهِ في الإرتباط بها ، لقد نصحهُ صديقهُ بعدم التسرُّع وإبقاء الأمر مخفيّاً قدر الإمكان إذا ما أراد له النجاح ... وقفَ عند أحد أطراف البيدر ينتظر جميلة لتأتيهِ بأخبار حبيبتهِ وهو حائر ، كانت غزالة تنتظر هي الأخرى بفارغ الصبر أيَّ خبر عنهُ .. كان يتطلّع الى مدخل البيدر تسيطر عليه مشاعر مضطربة الى أن أطلّت عليه تلك الفتاة مع نساء محلتها فأخذ يختبئ ويحاول قدر الإمكان الانسحاب كي لا يكون في موضع يجلب له الأنظار ...
تسلّلت الى تلك الزاوية التي يقف بها وراحت تحدّثهُ ...
ــ كيف حالكَ ..؟؟
ــ بخير .. وانتِ ؟؟
ــ بخير ..
ــ هل رأيتِها ؟؟ كيف حالها ؟؟
ــ إنها مُحبطة وحالتها يُرثى لها ، لقد إقترحت عليها ترتيب لقاءاً بينكما وقد أبدت سعادتها لذلك انها تتشوّق للقائك ..

29
ــ لن أنسى لكِ هذا المعروف إنْ صنعتيه معنا ، لقد أصبحت هي كل حياتي ولا معنى لوجودي من دونها ..
ــ لا تقلق سأبذل كل جهدي ، ولكن قلّ لي بماذا تفكر كحل لمشكلتكم ؟
ــ سأقول لكِ فيما بعد لا أعلم هل تتمكني هذهِ المرة من الحفاظ على سرّنا على الأقل كي يكون لقائي بغزالة نافعا وسريعا ً ؟
ــ أكيد سأحمل سرَّكما في صدري لقد تسببتُ بسذاجتي لكما بهذهِ المصيبة سأقف معكما الى النهاية لا تقلق ..
ــ ذلك أصبح من الماضي لا تفكري بهِ كثيراً لقد نسَيتهُ ، سيكون لكل شئ حلاً في مُخيّلتي ..
ــ سأبذل جهدي كي يتحقق لكما ذلك ، ربما أخبرك في الغد .. عليَّ أن أتأكد من الوقت الذي ستغادر فيهِ والدتي البيت لزيارة أهلها وبعدها ستتمكن من اللقاء بها على سطح منزلنا الملاصق لهم ..
ــ إنها فكرة جيدة ..
ــ إذاً سأعمل على تنفيذها ، إنكما بحاجة للقاء بعضكما لكي تتخذوا القرار المناسب ..
ــ أكيد إنها الحقيقة وستساعدنا فعلاً على تجاوز الكثير من الصعوبات ..
ــ إسمع عليك الدخول من الطرف الآخر لمحلتنا وتستطيع الدخول لدار جارنا تحت أيةِ ذريعة انهم أناس طيبون ولن يمانعوا أقول لك هذا خوفاً من أن لا أتمكن من ذلك في المرة القادمة تعلم أن الأمور تكون مقلقة في تلك الظروف..
ــ حسناً فهمت . أتمنى أن تتوفّقي في كل خطوة إن حياتنا غدت صعبة للغاية دون مساعدة منكِ
ــ لا تقلق ..سأذهب الآن وسيكون كل شئ على ما يُرام ..
30

أصبح يتوق لرؤيتها في أسرع وقت ليحسم الأمر ، ويدرك مع ذلك أن الأمر ليس سهلاً بالمرة وأن عجلة الزمن تسير ببطئ شديد يكاد يقضي على إندفاعهِ وعواطفهِ الجيّاشة ..
فهناك عوائق كثيرة ينبغي عليهِ تخطيها قبل أن يتمكن من تحقيق حلمهِ ، فكلّما فكر في مخرج وجد نفسهُ مُسيّراً الى حين ، فهو لا يستطيع لقائها دون مساعدة كما أنهُ حائر في الطريقة التي ستقودهُ لتحقيق أمنيتهِ بأقل خسائر ممكنة ..
لم تكن أسرتهِ متفاعلة معهُ بنفس الحرارة وحتى أسرة غزالة إطمئنّت الى هدوء الوضع الذي شغلهم ، فبعد قرارهم إعطائها لابن عمها إنتشرت الطمأنينة في نفوسهم دون أن يفكروا بطبيعة ردّ الفعل الذي سيتخذهُ جابر ..
كانت تنتظر صديقتها وجارتها التي وعدتها بترتيب لقاءاً بينهما ، كانت تعوّل عليها كثيراً للخلاص من محنتها وترى أن من المهم حسم الخيار مهما كان مكلفاً وقاسياً ، بدأت الأمور تتحرك تدريجياً نحو الأفضل لديه بعد ان حصر تفكيرهُ في هذا الاتجاه بالتحديد وبتشجيع من صديقهِ الذي بدأ يحفزهُ لتنفيذ رغبتهِ دون تردد ، كانت جميلة تحضّر نفسها جيداً كي لا تقع في خطأ ثانيةً وكانت تدرك انها قادرة على تقديم خدمة كهذهِ خاصةً في يومي الخميس والجمعة من الاسبوع لان والدتها كانت تذهب لزيارة جدتها مع خواتها ...
وأبلغت جابر فيما بعد بموعد يتمكن من اللقاء بغزالة رغم ذلك تسلل القلق الى نفسهِ دون عائق ، كان ذلك القلق مشروعاً لا سيما وإن حالة كهذهِ قد تنهي في لحظة واحدة ما يخطط لهُ منذ فترة ..
وإستطاع أخيراً الإطمئنان الى تلك الطريقة التي ستجمعه بها على سطح منزل جارتها ويلتقي بها رغم ان الفكرة يشوبها مخاطر وخوف من الفضيحة في مجتمع ربما لا يتفهّم طبيعة العلاقة التي تحكم العشّاق لكنها تمكنت أخيراً من تحقيق وعدها لهما كي تكفر عن خطئها ...
31


كانت غزالة حزينة وغاضبة في نفس الوقت يملئ نفسها الألم ، تسببت والدتها لها بالعذاب عن قصد وهو سبب حنقها عليها فهي لم تكن تعرف الكثير عن مشاعر إبنتها ولا تعير أيّ إهتمام لمستقبلها ، كان أكثر ما يحركها هو إنسجامها مع زوجها وأبنائها وباقي أفراد الاسرة ، فهو جو ملئ بالرجال وهناك قيود حديدية تتحكم في طبيعة تناولها لمواضيع الحياة ومن هذا المنطلق وقفت بالضد من ارادة ابنتها الوحيدة وتقرير مصيرها كيفما اتفق ..
أمّا جابر فقد إنشغلت أفكاره تماماً بتلك الطريقة التي ستجمعهُ بحبيبتهِ عاجلاً أم آجلاً فهو يحاول تركيز أفكارهِ على طبيعة ردود الأفعال التي قد تصدر عن أهلها بالتحديد ، كان يمشي عند أطراف بستان للزيتون وشعر بأن المغيب قد حل دون أن يشعر بكل ذلك الوقت الذي قضاه ، قرر العودة الى الدار والبحث من جديد عن أفضل الطرق التي تحقق لهُ أمانيه .. لاحظ ان والدته تتهامس في حديثها مع شقيقاتهِ وأدركَ أنَّ هناك أمراً ما يخصّهُ في ذلك الحديث ..إقترب من والدتهِ
وراح يحدّثها ..
ــ ما هي أخبارُكِ ؟؟ .. لماذا تتهامسي معهن ؟
ــ لا شئ إنها أخبار لا تسّر ..
ــ تحدثي ..ماذا هناك ؟
ــ لقد إستمعت اليوم حديثاً بخصوص غزالة .. إحدى نساء محلتها أبلغتني أنهم سيزوّجوها لإبن عمّها !!
ــ ماذا ؟؟ هذا لا يمكن ، لن أسمح لهم بفعل ذلك مهما كلّفني الأمر من تضحيات .
ــ لا تذهب بخيالك بعيداً يا إبني .. ما الذي يمكنك فعلهُ ؟؟
ــ غزالة تحبني وانتم تعلمون ذلك جميعاً حتى أهلها ، لن أدعهم يفعلوا ذلك ..
ــ وما الذي بإمكانك فعلهُ ؟؟؟
ــ سأخطفها وبموافقتها .. أي سنهرب نحن الأثنين معاً وليذهبوا الى الجحيم .
32
ــ ولكن ذلك سيفجر لنا مشكلة معهم لن نتمكن من التحكم بها سأعتبر أنّكَ كنت تمزح معي ..
إقترب من والدتهِ وعلامات الغضب تغطي وجههُ لدرجة انها محت معها تقاسيمهُ الأخرى وراح يقول بصوت يملئهُ الجديّة ...
ــ أنا جاد يا أمّي في كل كلمة أقولها .. لن نكون أول من يفعل ذلك ولا آخرهم .. سيدخل رجال العشيرة ويُحسَمْ الأمر ونحقق أمنيتنا أنا وهي أعلم انها مغامرة لكنهم يدفعونا لفعل ذلك مجبرين !!
ــ ولكن من الضروري ان يعلم والدك بما تفكر أليسَ كذلك ؟؟
ــ فليعلم !! انها خياري الوحيد في هذهِ الحياة ولن أتزوّج غيرها أرجو ان تفهمي ذلك ..
ــ إنّهُ تفكير خطير ويجب ان يعلم والدك بهِ .. أرجو ان لا تبيح لأحد بهِ ..
ــ حسناً تحدّثي مع والدي .. لأنني فعلاً سأنفّذ ما تحدثتُ بهِ ولن أتراجع عن قراري هذا !!
توّترت أفكارهُ وراح يحاول التركيز على نقطة معينة تجعلهُ أكثر هدوءاً دون جدوى ، فهو يشعر أنَّ كل شئ من حولهُ يتحوّل فجأةاً الى ضدّ لهُ ، لم يكن يرغب في التفكير بالصدفة فهو لا يحبذ ان تفعل فعلتها في مصيرهِ مع حبيبتهِ لذلك عزمَ على أن تكون خطواتهِ مدروسة ومتقنة لتنفيذها .. كان يدرك ان الحياة تستحيل بدونها ومعها ..
كان يفكر في الإسراع في تنفيذ أفكارهِ لا سيما بعد أن تعمّدَ أهلها نشر خبر زواجها من إبن عمّها ، كانت ليلة صعبة للغاية بالنسبةِ له فهو لم يتمكن من النوم لساعة واحدة بعد أن تملّكَهُ القلق وإنتابهُ هواجس مخيفة ، فالتفكير بهذه الطريقة لن يقودهُ الى حلول كان يُفضّل النوم بدل الخوض في المجهول الذي يقلقهُ ..

33
لم يكن نومهُ طبيعياً تلك الليلة فقد إمتلئ رأسهُ بأحلام متقطعة لم يتمكن من التقاط شيئاً منها كي يستطيع تفسيرَهُ وأزعجهُ ذلك حتى أنّهُ شعر بالضجر من تلك الاحلام وماهيتها ..
ألّمَ بهِ صداع عميق جعلهُ فاقداً للتركيز لكنهُ بدأ يتحرّك بإتجاه الحقل علّهُ ينسى بعض الشئ تلك الهواجس المضطربة التي سيطرت عليهِ بشكل طارئ ، أشعة الشمس الخجولة التي بدأت تنبعث من خلف قمة الجبل المحيط بالبلدة كانت تجعلهُ يتشوق لتلك اللحظات التي تتحوّل فيها الى حرارة تلهب معها مشاعره ويتلافى ذلك النسيم العليل الذي يذكره ببرد الشتاء ، تمنى في تلك اللحظات ان تكون حبيبتهِ معهُ في تلك الاثناء كي يحدّثها او يصحبها معهُ الى الحقل ليعملا سويةً لكنها كانت أمنيات ليس إلاّ تسير كسراب من أمام أنظارهِ لتذكرهُ بموقف أهلها منه ..
كان يشعرُ بالضيق كلما مرّت خواطر من هذا النوع عليهِ فهو لا يكره أحداً ولا يريد ان تعشعش الكراهية في قلبهِ تجاه أحد حتى أهلها الذين رفضوه ، لم يتمكن من كرههم ذات يوم كانت تلك المشاعر تنساب الى قلبهِ وتغادرهُ بنفس السرعة وهو يردّد مع نفسِهِ لا يمكن للمرء ان يكره احداً ان ذاق طعماً حقيقياً للحب ..
كان يعمل بعزيمة أصابها الكلل وقلّة الإندفاع حتى انّهُ كان يعمل لنصف ساعة ويأخذ أكثر من ساعة قسطاً للراحة ويدمدم مع نفسه لا يمكنني التركيز على شيئين في آن واحد معاً يالها من ضيقة .. عندما عاد من الحقل كان صديقهُ يجلس بالقرب من والدتهِ ويحدّثها وأثار ذلك جابر فقد كان قلقاً بعض الشئ ولا يرغب في حدوث أي تغيير في مواقف المحيطين بهِ كي تبقى عزيمتهِ قوية حتى تنتهي محنته..
ــ بماذا كنت تتحدث مع والدتي ..؟
ــ لا شئ .. كانت تحاول إقناعي بضرورة مساعدتك على نسيان غزالة وإختيار فتاة أخرى لحياتك بدلاً من الإصطدام مع أهلها والنتائج المجهولة ..

34
ــ لا يزالوا غير قادرين على تفهّم مشاعري ..إنهم يعتقدوا بأنها حالة عابرة وستمر مرور الكِرام .. وأنت بماذا أجبتها ؟
ــ قلت لها أنهُ يحبّها ومن الصعب الحديث معهُ في هذهِ الأثناء وإقناعهِ بالتخلّي عنها ، كانت تنصحني بأن أبذل جهداً أكبر معك ..
ــ يعني أنّكَ لا زلت على موقفك معي ..؟؟
ــ بالطبع .. أنا معك ، إنها مغامرة ولكنها ممتعة وسأقف معك الى النهاية مهما كان الثمن وإلاّ لا يمكنني إعتبار نفسي صديقاً وفيّاً ..
ــ كنت متأكد من ذلك ولهذا كنت مرتاحاً وانا أسألك ..
ــ ومتى ستنفذ فكرتك ؟؟
ــ لا بُدَّ لي أولاً من لقاء غزالة والإتفاق معها على وقت مُعيّن ..
ــ وأين ستلتقيها ؟؟ أليست ممنوعة من الخروج ؟؟
ــ بلى ..لكنني سألتقيها على سطح دار جارتها ..
ــ ماذا ؟؟ هل جننت ؟؟ هذا اللقاء الذي تتحدث عنه أخطر ألف مرة من الهروب معها ..
ــ أعلم ..ولكن ذلك ضروري لا يمكنني خطفها دون الحديث معها وأخذ موافقتها بعدئذٍ لا يهمني العالم بأسرهِ ، هناك فرق أن نتفق على موعد محدّد وتأتي برغبتها على أن أذهب لمكانٍ ما لإنتظارها حتى وان كان ذلك عبر صديقتها ..
عندما نقرر مصيرنا فذلك يعني أننا سنتحمل العواقب لوحدنا وسنعيش بعد ذلك براحة ضمير ، وكذلك لا نتسبب لأحد بالأذى ..
ــ هذا صحيح ..ولكن .. إنها عملية خطيرة هل تعلم مالذي سيحدث لو شاهدكما أحد أشقائها أو والدها ؟؟
35

ــ سأحاول الإختصار قدر الأمكان المهم ان نلتقى قبل أن ننفذ قرارنا في الهرب .
ــ أتمنى أن تسير الأمور على ما يرام .. رغم أنني لم أقتنع بضرورة لقائك بها قبل الهرب ..
ــ لا تخف ..! لن أتركَ مجالاً للصدفة في مثل هذهِ الحالات ينبغي وضع كل شئ في الحسبان وانا حسمتُ أمري بصدد اللقاء بها ..
ــ اتمنى ذلك ...
كانت الأمنيات التي تراودهُ كثيرة ومُخيفة في نفس الوقت لكنها كانت تعطيهِ الاندفاع بأنَّ هناك هدفاً بإنتظارهِ ينبغي الوصول اليهِ ، حالة الأضطراب هي الوحيدة التي كانت تميّز ملامحهُ وتغطي على أغلب تصرّفاتهِ دون ان يتمكن من السيطرة عليها أو حتى إخفائها فقد حاول مِراراً وفشل وأدركَ انها طبيعية قياساً لما يفكر بهِ او الظروف التي تتحكم بتصرفاتهِ ...
كانت جميلة قد وضعت خطة لا بأس بها من أجل تسهيل أمر لقائمها لكن ما كان يقف في طريقها هو تمكن غزالة من إستغلال ذلك الوقت الذي ستلتقي بهِ بجابر او على الأقل تتمكن من إقناع أهلها بضرورة الحديث مع جارتها ، كان عليها تقديم تنازلات من نوع معيّن حتى تحصل على حريتها ومن ضمن تلك التنازلات اعلان موافقتها الارتباط بإبن عمّها وكذلك إعترافها بالخطأ في إقامتها لعلاقة عاطفية مع جابر دون علم أهلها وهي مواضيع كانت تقلقها فهي لا ترغب في تقديم هكذا تنازلات خوفاً من أن تتحول الى واقع قبل ان يتمكن جابر من فعل شئ لها ...
أخبرت جميلة جابر بموعد اللقاء مع غزالة ودعتهُ الى إتخاذ الحيطة أثناء دخولهِ وتسلقهِ للسطح بينما كانت غزالة متردّدة ومرعوبة من ذلك اللقاء حتى انها لم تجد مبرر له خوفاً من حدوث طارئ يفاقم مشكلتها مع الاهل ويضع جابر امام تحديّات جديدة ..

36
تسلل جابر بهدوء ودون ان يجلب إنتباه أحد ومكث مكانه ينتظر حبيبتهِ التي كانت تتابع الوضع في الدار والذي كان مواتياً لها فقد كانتا كل من والدتها وجدّتها يجلسّنَ في إحدى الغرف ويعكفنَ على تنقية حبّات العدس من الشوائب والحجارة الصغيرة المنتشرة فيه!
طلبت من والدتها السماح لها بالذهاب للسطح والحديث مع جميلة جارتها هناك ورغم علامات الرفض البادية على ملامحها الاّان والدتها وافقت بعد ان إطمئنّت الى انها لن تخرج من الدار ... ذهبت الى السطح مُسرعة لكنها لم تشاهد أحداً كان جابر منزويا بطريقة ما في إحدى الزوايا فلمحها ونهضَ مُسرعاً هيه ..
غزالة !!
ــ اقتربي لا أستطيع الوقوف كاملاً خوفاً من أن يرانا أحدهم ..
إنفرجت أساريرها رغم حالة الرُعب التي إنتابتها .. وإقتربت منهُ لا تصدّق نفسها أنها أمام حبيبها بعد فترة فراق طويلة ..
ــ كيف حالكَ ؟؟
ــ بخير ..وانتِ ؟
أجهشت على البكاء ووضعت كفيها على عينيها لم تكن قادرة عن التعبير بعد أن شعرَتْ بأنَّ أفضل التعابير عن حالتها تكمن في ذرف الدموع ..
تداركَ جابر الموقف بسرعة وراح يقول لها ..
ــ لا تبكي طالما أنا معكِ !! سنعيش معاً حتماً لا تقلقي .. أرجو ان تسمعينني جيداً الوقت ثمين لقد فكرّتُ بطريقة تجمعنا الى الأبد شرط أن توافي عليها لا يمكن لأحد ان يقف عائقاً أمام حبّنا وسعادتنا ..
ــ كيف ..؟
ــ سنهرب معاً الى سنجار أو أيّ مكان آخر .. فكّري جيداً لن نكون أول من يفعلها لقد سبقنا الكثيرون ..
37
ــ وأهلي هل فكّرتَ برد فعلهم سيقلبوا الدنيا على رؤسنا ..
ــ لا لن يتمكنوا من فعل شئ سيتدّخل رجال العشائر ويحسموا الموضوع بالمال المهم ان نصل لهدفنا لن نفعل شيئاً معيباً هم وقفوا بطريق سعادتنا ..
ــ أنا خائفة من هذهِ الخطوة ..
ــ لاتخافي .. سيساعدنا كذلك الأصدقاء وكل شئ سيسير على مايُرام فقط وافقي انتِ وأتركي الباقي لي ..
ــ حسناً لا مفرّ امامنا من هذا الخيار انا معك وليحدث ما يحدث ..
ــ إسمعيني جيداً غداً ربما يكون ذلك بعد منتصف الليل سأعطيكِ إشارة صفير مثلاً وتأتي لهذا المكان واتركي كل شئ لنا ..
ــ وإن لم تأتِ ؟؟
ــ سآتي حتماً لا مزاح في هذا الأمر مستقبلنا يتوقّف على ساعات معدودة وبعدها سنجتمع الى الأبد ..
ــ حسناً سأنتظر إنتبه لنفسكَ جيداً ..أنتَ أملي الوحيد في هذهِ الحياة ولا تتركني أنا أحبك ولا يمكنني العيش بدونك ..
ــ وأنا أيضاً لا يطيب لي العيش دونكِ ..أنا أحبكِ أيضاً ..سأذهب الآن ولا تنسي موعدنا !!
ــ لا .. لن أنسى وسأتهئ لكل شئ ..مع السلامة
ــ مع السلامة ..حبيبتي
عادت مُسرعة يتراقص قلبها فرحاً برؤيةِ حبيبها ومجئ علامات الأمل معهُ فهي كانت فاقدة للأمل وعاشت لحظات سوداوية مريبة جعلتها حزينة الى حد لم تعشه من قبل ..
لم تلاحظ والدتها شئ وتسلّلت الى غرفتها وهي منتعشة بما سمعتهُ من حبيبها ..
38
عاد جابر متفائلاً فقد بدّدَ اللقاء كل َّ مشاعر الخوف والتردّد من داخلهِ وحسمَ أمرهُ في تنفيذ فكرتهِ والظفر بحبيبتهِ مهما كان الثمن .. راحَ يحكي لصديقهِ ويشعر بالإمتنان لموقف جميلة التي سهّلت له اللقاء بغزالة .. ذلك اللقاء جعلهُ يشعر بأنَّ كل شئ سيسير كما يريد دون ان يتدخّلَ أحد ..
لم يكن قادراً على الجلوس في مكانهِ سوى للحظات فالسعادة التي سيطرت على مشاعرهِ كانت تجعلهُ منتشياً بمعاني كثيرة للحياة لم يكن قادراً على تمييزها عن بعضها .. أخذتهُ العاطفة بعفوية وتحكّمت بتصرّفاتهِ حتى أنّهُ كان بادياً للعيان مفضوحاً لم يتمكن من إخفائها ..
كانت غزالة تعيش مشاعر متناقضة تأخذها تارةً لضفاف السعادة وتارة أخرى للرعب الذي يمثلهُ لها رد فعل أسرتها فهي لا تعلم الى أين سيأخذها قلبها على وجه التحديد كان القلق يوصلها الى الشعور بالتسرّع في إتخاذ هكذا قرار ..
لكنها في نفس الوقت لا تستطيع تخيّل حياتها مع إبن عمّها مجرّد التفكير في ذلك يُدخل البؤس الى قلبها ويجعلها تكره تلك الطبيعة المحيطة بها ، كانت ملامح وجههُ تعطيها الأمل وكذلك صوتهُ الذي أدخل الهدوء والسكينة الى نفسها بعد غياب عاشت يوماً مُثقلاً بالهواجس ومعه لحظات سعيدة ربما تمنّت ان تتكرّر معها كي تستمر مشاعر السعادة تلك في التدفّق ..
خلدت الى النوم قلقة مضى شريط الاحلام يملئ تفاصيل المشهد . شاهدت أكثر من حلم لكنَّ أحدهم مكثَ في ذاكرتها ليدخل الرعب في نفسها ، كانت تتقلب على فراشها تفكر بتفاصيل ذلك الحلم المُرعِبْ ..
كانت تجلس تحت شجرة لثمرة الكستناء وتنظر الى بحيرة هادئة ترفرف بعض العصافير فوق منظرها الجميل غارقة في التأمُّل لم تكن تركز على فكرة ما ، فاجأها رجلان بالاقتراب منها يرتديان ثياباً ناصعة في بياضها وتتدلى من وجهيهما لحايا بيضاء قلما شاهدت مثيلاُ لهما ، فهو وقار مُرعِب بالنسبة لها كانا يناديان بإسمها ونصحاها بالذهاب معهما ... كانت تتخوّف في داخلها من أن يسمَعَ أهلها أصوات الرجلين ..
39
لم ترفِضَ طلبهِما وذهبت معهما كان الخوف يعتصر في قلبها لاسيما وأنَّ هدوئهما كان يثير الرعب في نفسها قادها نحو قاربٍ صغير ولم تعد تسمع سوى أصواب أعواد التجديف وتفاعلها مع موجات الماء كان القارب يتجه صوب الغسق وكأنَّ نهاية العالم تكمن هناك وهي صامتة لا تستطيع السؤال عن شئ .
نهضت من نومها وأدركت أنَّ العرق يتصبّبَ من وجهها وأجزاء أخرى من جسدها ، راحت تتأمّلَ في ثنايا ذلك الحلم وتسلل الى داخلها شعوراً بحدوث شئ ما في الغد لكنها تأمّلت أن تكون عاقبة ذلك الحلم سعيدة وتخلو من الأقدار ، حاولت التفكيرفي شئ آخر لكنها لم تتمكن من التركيز فقد كان ذلك الحلم يقفز الى مخيّلتها دون مقدّمات ويفرض نفسه ومكثت تتقلّب في مكانها حتى الصباح دون ان تتمكن من إغماضِ عينيها .. كانت المرة الاولى بالنسبة لها تشعر بذلك النوع من إنقباض النفس والقلق المُرّ ...
كانت تفكر بتلك العذوبة التي تجلّى بها الرجلان وأطلا من خلالها عليها ربما كانا يعنيان الذهاب بها الى العالم الآخر لكنها لم تتمكن من سرد حلمها لأحد ، ان مجرّد إستعادتها لذلك الحلم كان يجعلها تضطرب من الاعماق وتعيش لحظات من الخوف لم تعشها من قبل !!
كان جابر يتابع تحضيراته للقيام بتنفيذ فكرتهِ ، أصبح واثقاً من انها ليست مستحيلة وسيتجاوز ردود الأفعال مهما كانت قاسية وشديدة عليه ، فلم يعد يخشى شيئاً حتى تلك الاعتراضات الجانبية من والدتهِ وهنا وهناك لم تعد قادرة على وقف عزيمته في الذهاب بعيداً بفكرتهِ ، حتى التوجّس من أيّةِ ردود فعل من أهلها لم تعد تخيفه فقد كان يسير بخطوات واثقة تجعلهُ يحدد مسارهُ جيداً ..
ذهب لصديقهِ ليرى إستعداده لمشاركتهِ في هذهِ الخطوة لم يكن هناك ما يدفع ذلك الصديق للتردّد فقد وعدهُ وهو على إستعداد للمضيء الى النهاية في الطريق ، قرر تنفيذ فكرته في تلك الليلة بالتحديد وطرد كل الهواجس من داخلهِ وانطلق في تلك الليلة ينتظر صديقه كان الوقت يقترب تدريجيّاً من منتصف الليل ، جاء صديقه ببندقة انكليزية الصنع تم تأمينها في وقت سابق كي تحميهم من ايّ طارئ أثناء الهرب ..
40
كانت لحظات صعبة على غزالة التي إنزوت في غرفتها يتملكها القلق بطريقة لم تعشها ابداً ،كادت تفقد صوابها ومن كان يشاهدها في تلك اللحظات ليجزم بأنها مخلوقة سيطر عليها الجنون ليس إلاّ ..!!
كانت المرّة الاولى التي تتجرّأ على تحدّي اسرتها والنظام الاجتماعي الذي نشأت تحت ظلّهِ ، حسمت أمرها في النهاية في الهرب مع حبيبها مهما كانت العواقب بعد أن تذكرت أن هناك من سبقها في عملٍ كهذا ، راحت تسترجع ذكريات كثيرة من طفولتها من لعبها مع أشقائها ، تحاول ان تجمع تلك اللحظات السعيدة التي عاشتها في كنف والديها ، كانت قليلة ومعدودة تذهب من أمام ذاكرتها كشريط ينتهي بسرعة ، فهي لم تعش لحظات سعيدة في طفولتها بسبب التفريق بين الجنسين فقد كان والدها يميّز أشقائها عنها لانهم ذكور بل وحتى كان لا يتذكرها أثناء شراءهِ لهدايا العيد فقد كانت والدتها تقوم فيما بعد بشراء هديّة العيد لها ،كانت تريد البكاء بعمق كي تتخلص من تلك الحسرات والتنهدات التي ملئت صدرها ، كانت تشبه خروفاً أضاع طريقه مع القطيع وينظر حوله ببراءة رغم شعوره العميق بالاسى ..
أطلق جابر إشارةً من فمهِ كانت متفقة معهُ على أن تكون أشارة البدء لها بالخروج من الدار ، لم تمهل نفسها طويلاً في التفكير وفتحت باب غرفتها وراحت تمشي بهدوء من أمام غرف أفراد اسرتها ، كان الجميع غارقاً في النوم بإستثناء تلك الغرفة التي كانت أصوات دمدمات بسيطة تنبعث منها كان والديها يرقدان فيها ، تسلقت درجات السلم المؤدي الى السطح ووصلت الى الجدار الذي يفصل بين اسرتها واسرة جميلة جارتها تسلقت ذلك الجدار المنخفض للغاية حتى وصلت الى سطح تلك الاسرة المسيحية ، كان جابر بإنتظارها وراح يحتظنها بقوة ويشعر معها انها تلك البداية الحقيقية لارتباطهما في عشٍ واحد ..
راح يشرح لها طريقة النزول من ذلك السطح المُطل على ساحة صغيرة كانت الاسرة المسيحية تستخدمها لربط ماشيها وكذلك لتربية الدجاج أثناء النهار ، كانت اسرة غزالة تشترك في الاطلال على تلك الساحة الصغيرة للغاية لكن دار والدها كان يتكوّن من طابقين مرتفعين يصعب الهبوط منها الى تلك الساحة بينما كان
41
دار الاسرة المسيحية منخفضاً بطابق واحد ذي ستارة منخفضة ايضاً ، بعدها قفز جابر الى الاسفل ليلتقط حبيبته في الأسفل كان ينبّهها الى وضع قدميها في تلك الفجوات التي تتخلل الجدار المَبني من الجص والحجر ، كانت بطيئة وترتعب من علو السطح ربما بسبب الظلام ، فطلب منها ان تقفز لكي يلتطها ويسرعان في الهرب قبل ان يستيقظ احدهم ..
قفزت غزالة من الاعلى وإلتقطها لكن ثقلها دفعه الى الارتماء جانباً معها ورغم انه أحسَّ بالألم في احدى جهتيه الاّ أنَّ وصولها الى الأسفل جعلهُ يشعر بسعادة إنتبه الى أنَّ غزالة أطلقت صوتاً مليئاً بالألم من أعماقها فراح يسألها ..هل أصابكِ سوء ؟؟ لم تجبهُ!!
عندما سقطت غزالة من الاعلى هوت معهُ جانبا غير ان جسدها سقط على وتد من حديد بارز إخترق جهتها اليمنى ،لم يفهم لماذا لم تجبه ربما توقع انه أغمِيَ عليها فسحبها بقوة نحوه وشعر بحرارة سائلٍ حار يتدفق من مكانٍ ما طلب من صديقهِ الاقتراب وإشعال عود ثقاب .. وما أنْ أشعل صديقه العود حتى لمحا وتد الحديد تغطيه الدماء عندها أطلق جابر صرخةً قوية ..غزالة
كانت صرخته تلك تشبه صوت إطلاق رصاصة من فوهةِ بندقية فهي محمّلة بالأسى والحزن كانت لا تزال على قيد الحياة وتردّد بعض الكلمات الغير مفهومة خرج أفراد المحلة مُسرعين يسألون عن مصدر الصوت والحدث شعر صديقه بأنهم بحاجة لمساعدة ربما يتمكن أحدهم من إنقاذها فهرع الناس نحو تلك الساحة الصغيرة بعد ان اشار لهم صديقهُ الى المكان ...
ولو قُدّرَ لأحد من أبدع الشعراء الحضور مع الناس في تلك اللحظات لوجد صعوبة في إنتقاء الكلمات المعبِّرة عن الحدث بدقة.. كان يحتضنها بقوة عندما إقتربت منه سيدة كانت تعمل ممرضة في مستشفى المدينة وما أن وضعتها في أحضانها حتى أدركت انها فارقت الحياة من ثوانٍ معدودة ..

42

لقد أذهلتهُ الحادثة وجعلته يفقد الشعور بما يحدث من حوله ، سارع احد الحاضرين لابلاغ اسرتها بما حدث فإنطلق والدها كالثور الهائج يصرخ بإسمها بأعلى صوتهِ لحقتهُ زوجته ومعها جدّي غزالة وكذلك أشقائها ، كان منظراً مأساوياً لوالدها وهو يرى إبنته الوحيدة مغرقة في دمائها ملقيةً على الارض لمح جابر من خلال أضواء الفوانيس والشموع التي يحملها الناس المتجمّعين في المكان فأدركَ على الفور طبيعة الحدث ووجّهَ لهُ ضربةً قوية في وجهه وراح يركلهُ كالمجنون وشاركه أبناءهُ في ذلك الضرب الذي لم يشعر به على الاطلاق فقد كانت الابتسامة البائسة التي غطت وجه غزالة هي المشهد الذي لم يكن يرغب في ان تغادر خياله ..
إرتمى بعض الشباب على جابر لانقاذهِ من غضب اسرة غزالة سارع صديقه لإبعاده من المكان فإتجها نحو الدار وابلغَ صديقه اسرة جابر بالحدث وقرر التوجه الى مركز الشرطة لشرح الموضوع بدلاً من ان يأخذ أبعاداً أخرى ..
لقد شهدت تلك الليلة على واحدة من أفضع لحظات حياته بدلاً من أن تشهد على سعادتهِ وزواجه ، لقد إنتقلت حبيبتهِ الى ذلك العالم الآخر الذي يجهل سيمائهُ ، روت غزالة حلمها في ذلك النهار لجارتها جميلة في لقاءٍ قصير على السطح وبادلتها القلق بشأن تفسيرهِ لكن الحلم كان الأكثر صدقاً في تفاصيل تلك الليلة .
مكثت تفاصيل تلك الليلة في وجدان من وقفَ يتطلّع الى ذلك الوجه الذي فارق الحياة وهو يترك ابتسامةً بائسةً تعبر عن حالة واقعها الذي عاشته ، لقد فارقَ هو الآخر الحياة معها حتى أنّهُ لم يعد يشعر بما يحدث من حوله فقد غابت عنهُ إشراقة الحياة الى غير رجعة ..
مكث في السجن لسبع سنوات لتنفيذ الحكم الذي صدر بحقهِ وتحمّلَ مسؤولية الحادث بعد ان برّئ صديقه وأصلحت أسرته ذلك الوضع بدفع مبلغ من المال كتعويض لأهل غزالة وهو عرف إجتماعي لا يزال عند معظم القبائل ساريا بينما راح يعيش تفاصيل حياته التي إختصرها في التفكير فقط بما حدث في تلك الليلة كئيباً في وِحْدَة قاتلة مفضّلاً الانغلاق على نفسهِ بين جدران ذلك السجن ..
43
لم يعد يبالي حتى بوجبات الطعام او الزيارات التي كانت تقوم بها الاسرة له بين فترة وأخرى فقد جعلته تلك اللحظات مصاباً بالقنوط والكآبة الى تلك الدرجة التي أفقدتهُ الإحساس بما يحدث من حوله ..
ويجمِعُ من كانوا حوله في السجن أنّهُ لم يتكلم إلاّما ندر حتى أثار إستغرابهم وشفقتهم في نفس الوقت فهو لم يكن مجرِماً أو دخل السجن بجنحة مخلة بالتصرف العام ، كان يحمّل نفسهُ مسؤولية ما حدث ، كادت الأسئلة التي تفرض نفسها عليه تقتلهُ ..
فهو تمنى ان يقف الزمن عند تلك اللحظة التي إحتظنها فيها على السطح قبل أن يطلب منها النزول الى الاسفل ، تراوده في كل لحظة أفكاراً كثيرة تكشف له جهلهُ في التصرّف فقد كان يتسائل .. لماذا لم أطلب منها ان تنزل من الدرج العادي لتلك الاسرة المسيحية ؟؟ بالتأكيد فإن تلك العائلة لم تكن تمانع ؟؟
لماذا لم أطلب منها أن تغادر دارهم من البوابة الرئيسية أصلاً لم يكن أحداً سيشعر بحركتها ؟؟يالهُ من غباء تمتعت به !!! كادت الحيرة تقتله كلما عاد الى الوراء لتذكر الحدث ، لقد أصابه الحزن في أعماقهِ كما أصاب أهلهِ الذين خسروه ولم يعد بإمكانهم مشاهدتهُ لقد قضت تلك اللحظات على حياته حتى أنّهُ لم يكن يشعر بسنوات سجنه التي كانت تمضي ويمضي معها ربيع شبابهِ ...
كانت حياته في تلك الفترة تنحصر في تفكيره بتلك اللحظات السعيدة التي قضاها مع حبيبتهِ في بيادر البلدة يتذكر لحظات العشق التي جمعته بها منذ تلك الوهلة التي وقعت عيناه عليها في المزار وأحبها فيها ...
كان يتمنّى قضاء كلَّ حياتهِ بالسجن فهو لا يرغب بالعودة الى البلدة ومشاهدة ذلك المكان الذي رحلت منه حبيبتهِ ، ولا يرغب أيضاً بالعودة الى تلك اللحظات التي تجعل حياتهُ مُظلمة لا شوق فيها لشئ إلاّ للموت !! إنقضت سنوات سجنهِ التي كانت صعبةً عليه فالبؤس والحزن مَيّزا تلك السنوات السوداء التي منعتهُ حتى من زيارة المكان ، كان أهلهُ بإنتظارهِ عند بوّابة السجن أثناء خروجهِ فقد تحوّلت تلك المناسبة الى جرح آخر أضاف إليهِ والى أسرتهِ المزيد ، كان يطلق الحسرات
44
بعمق وهو يتطلّع الى تلك الطبيعة التي لم تعد مُشرِقة ولم تعد تعني له شيئاً فقد خسر ذلك الشعور الذي سادهُ عندما إلتقى حبيبتهِ للمرة الأولى لم تعد تلك الطبيعة تشدّهُ الى شئ لقد خسر حتى الاحساس العميق بتلك الطبيعة ..ورغم حديث والديه معه طوال الطريق إلاّ أنّهُ كان يرد بإقتضاب ودمدمات لا يفهمان منها شيئاً !!
طلب من والديه الوقوف قليلاً عند ذلك المكان الذي رحلت منه غزالة ولم تمانع والدته من ذلك وراحت تقول انه ربما سيُخرِج ذلك الحزن من أعماقه وإتجهت العربة الى ذلك المكان ، إنتابهُ شعوراً غريباً وهو يقترب منه حتى أنّهُ بدأ بالبكاء قبل أن يترّجلَ من العربة ، كان الشارع الذي يقع عليه المكان يعجُّ بالمارّة والبعض وقف يراقب ذلك المشهد عن بُعد بَعد ان تعرّفوا عليه رغم لحيتهِ التي جعلتهُ أشبه بالكهل المقبل على نهاية مسيرة حياته ..
جلسَ في ذلك المكان حيث كان الوتد الحديد لا يزال بارزاً في مكانهِ لا يستطيع أن ينسى تلك اللحظة التي سقطت فيها غزالة ، كان والديّهِ يراقبانِ من بعيد تصرفاته ووضعَ كفيه على رأسهِ ثم أخفى رأسه وهو يبكي بعمق ، كانَ يُخيّل لمن يشاهدهُ أنه مجنون لكن أحداً لم يكن يدرك ما كان يعتصر في قلبهِ من أحزان
سكت غفلةً وسقط في ذلك المكان أسرعت والدتهُ لنجدتهِ مذعورة لكنه لم يكن سوى جثة هامدة ، صرخت والدته بأعلى صوتها لتُحدِث صرختها فزعاً أرهب قلوب سامعيها ، كانت تحرّكه دون جدوى ليس هناك من يُجيب !!
فقد رحل من ذلك المكان الذي شهدَ رحيل حبيبته قبل سبعة أعوام ليترك أثراً حزيناً حتى عند أهل حبيبتهِ الذين أدركوا فقط في تلك اللحظة كم كان يحب إبنتهم
بينما إختصرت والدتهُ كل أمنياتها بأن يصل الى الدار ويتناول لقمة معها لكن تلك الأمنية لم يُكتب لها النجاح ...


45



#فواز_فرحان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- معجزات البرلمان العراقي ...الخمس عشرة ..!!!
- مالذي إعتبره لينين أساساً متيناً للنظرية الثورية ؟
- لم يعُد لينين بيننا !!
- سقوط الارادة الدولية ...
- حادثة المؤتمر الصحفي لبوش بشكل معاكس ...
- مكافحة العنصرية والأيدلوجية الدموية ...
- ما الذي ننتظرهُ من الإنتخابات المقبلة ...
- الفرصة الكبرى لليسار السياسي الأمريكي ..
- ثورة اكتوبر ...ودولة المجالس العمالية
- سفراء الولايات المتحدة وأشواك اليسار المتمرّد
- الموضوعية ...في وسائل الاعلام الغربية
- حول عودة المهجّرين قسرياً ...
- الثوابت الفكرية للاتحاد الاوربي ...
- الهدف من الإتفاقية الأمريكية مع العراق ...
- دراسة في واقع ألسياسة ألأمريكية .
- ألمكان ألأكثر بؤساً في ألعالم ...
- ألمشروع ألروسي ألجديد للشرق ألأوسط ...
- ألعولمة ... وألمصدر ألفعلي للإنتاج
- ألحركات أليسارية ..وألقواسم ألمشتركة مع معارضي ألعولمة
- جوانب مُظلمة في الحرب الأمريكية على الإرهاب


المزيد.....




- تداول أنباء عن زواج فنانة لبنانية من ممثل مصري (فيديو)
- طهران تحقق مع طاقم فيلم إيراني مشارك في مهرجان كان
- مع ماشا والدب والنمر الوردي استقبل تردد قناة سبيس تون الجديد ...
- قصيدة(حياة الموت)الشاعر مدحت سبيع.مصر.
- “فرحي أولادك وارتاحي من زنهم”.. التقط تردد قناة توم وجيري TO ...
- فدوى مواهب: المخرجة المصرية المعتزلة تثير الجدل بدرس عن الشي ...
- ما حقيقة اعتماد اللغة العربية في السنغال كلغة رسمية؟ ترندينغ ...
- بعد مسرحية -مذكرات- صدام.. من الذي يحرك إبنة الطاغية؟
- -أربعة الآف عام من التربية والتعليم-.. فلسطين إرث تربوي وتعل ...
- طنجة تستضيف الاحتفال العالمي باليوم الدولي لموسيقى الجاز 20 ...


المزيد.....

- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فواز فرحان - أحباب في العالم الآخر ...3